في عام 1987 تلقى الدكتور موريس بوكاي دعوة من معهد الإعلام والتعليم الإسلاميّ في شيكاغو بالولايات المتحدة الأميركية لإلقاء محاضرتين. واستندت المحاضرتان إلى كتابين لبوكاي هما: “الإنجيل والقرآن والعلم” (1976) و”أصل الإنسان” (1981).
في اليوم السابق على المحاضرة الأولى التقى الدكتور بوكاي في لقاء غير رسميّ مجموعة من العلماء والمعلمين والأطباء الأمريكيين في حديث خواطر أثرى به الدكتور بوكاي معلومات الحاضرين عنه وخاصة عما لم يذكر في كتابيه.
وأعتقد أن نشر هذا اللقاء أخيراً ولأول مرة باللغة العربية يوفّر فرصة فريدة من جوانب عدة. فالنص الذي تم تفريغه بالإنجليزية من لقاء مسجل بالصوت والصورة يفتح أبواباً لتعرّف جوانب مجهولة للكثيرين في حياة الدكتور بوكاي ومسيرته وإنجازه. بل إني أرى النص منبراً يعتليه بوكاي ليرد بنفسه وبلسانه على كثير من المعلومات غير الصحيحة المتداولة عنه شخصياً وعن الظروف المحيطة بجهوده العلمية في مقالات وكتب وعلى صفحات في مواقع إلكترونية.
بل إن هذا اللقاء لم يكن متاحاً حتى بالفرنسية، لغة بوكاي، حتى اتصلت بي المجموعة الإعلامية الإسلامية الفرنسية Alamane Studio في عام 2011 لتطلب النسخة الإنجليزية لترجمتها إلى الفرنسية تعميماً للفائدة ولأغراض البحث العلمي.
وقد رأيت أنه من المناسب ذكر الآيات القرآنية التي أشير إليها في الجلسة لتوضيح النقاش.
ترجمة وإعداد: الفاروق عبد العزيز

تقديم مدير الجلسة
تسنح لنا اليوم فرصة رائعة للحديث مع الدكتور موريس بوكاي وهو عالم فرنسيّ شهير مرموق اهتم كثيراً بدراسة الكتب السماوية المقدسة في فترة من حياته وعلى وجه الخصوص قام بدراسة الإنجيل والقرآن الكريم وقام بمقارنتهما بالعلم. ونتيجة للأبحاث التي قام بها اكتشف الكثير مما يثير الاهتمام حيث وجد تطابقاً بين كتاب مقدس والعلم من جانب وفي الوقت ذاته وجد تناقضات بين كتب مقدسة أخرى والعلم من جانب آخر. هذا موضوع لقائنا معه اليوم. وقد نشر الدكتور بوكاي كتابين؛ الأول بعنوان “الإنجيل والقرآن والعلم” وقد نشر باللغة الفرنسية ثم ترجم إلى الإنجليزية. ومنذ ذلك الحين تمت ترجمته إلى عدة لغات أخرى من بينها العربية والإسبانية والتركية والأوردو. أما الكتاب الثاني فهو “أصل الإنسان” حيث تناول الدكتور موريس التناقض بين الخلق Creationism والتطوّر Evolutionism وقد اكتشف بعض الحقائق الأكيدة في ضوء الإنجيل والقرآن الكريم. ثمة كتاب ثالث، تحت الطبع في الوقت الحالي، عنوانه “مومياوات الفراعنة: بحوث طبية حديثة”. وفي هذا الكتاب نجح الدكتور بوكاي في تحديد هوية الفرعون الذي كان يحكم مصر عند ميلاد النبيّ موسى عليه السلام والفرعون الذي حكمها عند خروج موسى عليه السلام من مصر.
مع تلك الملاحظات أقدم لكم الدكتور موريس بوكاي وقد تكون لديه الرغبة في تقديم بعض الملاحظات الافتتاحية، ثم يلي ذلك طرح الأسئلة إن شاء الله.
ملاحظات افتتاحيّة للدكتور موريس بوكاي
ربما يتعيّن عليّ أن أحدثكم أولاً حول الكيفية التي واتتني بها فكرة القيام بمقارنة بين الكتب السماوية المقدسة وبين العلم.
بدأ الأمر حينما كنت على وجه التحديد في الخامسة عشرة من عمري…كنت لا أزال تلميذاً في مدرسة مسيحية كاثوليكية، وهو الموقع الذي أتاح لي تعرّف الأناجيل بدرجة جيدة. غير أنه وعلى غير توقع مني أصابتني صدمة شديدة حينها. فقد نما إلى علمي لأول مرة حقائق علمية وجدتها تتضارب مع ما جاء في الأناجيل!
إليكم وصفاً لهذه الحادثة.
أعلن في عام 1935، حين كنت في الخامسة عشرة من عمري، عن اكتشاف مهم متعلّق برسوم بشرية عُثر عليها على جدران كهف يقع في جنوب إسبانيا. كان هذا اكتشافاً حقّقه عالم فرنسيّ كان في الوقت ذاته كاهناً. نشر هذا الاختصاصيّ نتائج اكتشافه في عدة مقالات ومحاضرات. وكان أهم ما لفت نظري في اكتشافه حقيقة أن تلك الرسوم يرجع تاريخها إلى حوالي 15 ألف عام من ذلك التاريخ – 1935. وفي كتاب التعليم الدينيّ الذي كنا ندرسه يذكر المؤلفون أن أول ظهور للإنسان على سطح الأرض يرجع تاريخه إلى حوالي 40 قرناً قبل ميلاد المسيح عليه السلام.
توجهت إلى الأب مدرّسي بسؤال: “قل لي يا أبت…أيّهما أصدّق…كتاب الدين أم هذا الاكتشاف؟ أجابني الأب: “لا…لا…لا تخلط بين شيئين؛ هناك الدين وهناك العلم. إذا كان هناك شيء غير متوافق مع الدين فما يقوله الدين هو الحقيقة”. قلت لنفسي: “ولكن هذا مستحيل! فتقدير عمر تلك الرسوم قد تم باستخدام أدوات وأساليب غاية في الدقة، ولذا فهي حقائق مبرهن عليها. وبالتالي فإن أول ظهور للإنسان لا يمكن تقديره وفقاً للزمن المذكور في الكتب الدينية. هذا مستحيل!”.
لقد تم تلقيننا فكرة أن الدين قد يخطئ في مثل هذه الأمور أو قد يكون فيه بعض التضارب، وكان هذا صحيحاً فيما يتعلّق بهذه الحادثة، لأن العلم كان يقول شيئاً بينما يقرّر الدين شيئاً مختلفاً تماماً. أين هي الحقيقة المؤكدة إذن؟
وقلت لنفسي…هناك بالتأكيد خطأ ما.
زد على ذلك…فإنه يرد في إنجيل لوقا على سبيل المثال أن هناك 76 جيلاً من البشر يمتد بين آدم والمسيح عليهما السلام. هذا مستحيل! إن الأمر هنا يتعلّق بالأناجيل. وبالنظر إلى أنني كنت أدرس في مدرسة مسيحية فقد تركت هذه الحادثة في نفسي أثراً مهماً للغاية. وقد أردت هنا أن أشرككم في هذا الشعور.
في بداية دراستي الطبية كان علم الأحياء قد أحرز تقدماً كبيراً يختلف مستواه بالطبع عما بلغه في الوقت الحالي. ولكنني استطعت آنذاك تكوين أفكار علمية عدة قد تجعل المرء يقطع، بالنظر إلى وظائف الخلايا، بأن التاريخ الوارد في الأناجيل لعمر الإنسان غير صحيح. هذا ما كنت أفكر فيه بالتحديد في ذلك الوقت.
بيد أن بالنسبة لي لم يكن الدين مناقضاً للعلم في أيّ وقت من الأوقات. وكان العلم هو ما قادني إلى الإيمان بالله والتفكّر فيه منذ أن كنت شاباً. وأذكر أنني قلت لنفسي حينها إنه من غير الممكن أن يكون هناك إله لليهود وآخر للمسيحيين وثالث للمسلمين. لقد جاءني هذا الشعور بشكل طبيعيّ. ولعله كان السبب الذي جعلني، قبل أن تتاح لي فرصة معرفة القرآن معرفة دقيقة، جعلني أحب الله الإله الواحد. وأعتقد أن هذا بعض ما ردّده البابا في أثناء زيارته للمغرب في العام الماضي حسبما أتذكر، ولذا فقد كانت فكرة الإيمان بالله الواحد الأحد مسألة طبيعية تماماً بالنسبة لي حتى قبل تعرّف القرآن.
بدأت المرحلة الثانية في رحلتي حينما كنت أستقبل مرضى مسلمين في باريس. كان عمري آنذاك يقارب الأربعين عاماً. وأذكر أنه سنحت لي فرصة الحديث مع كثيرين منهم حول الدين الذي كانوا يعتنقونه وكيف أنه مختلف عن ديانتي. وكما ترون فقد كنت أعتقد أن القرآن في الأصل كلام بشر. ولكنّ كثيراً من مرضاي المسلمين أخبروني بأنني على خطأ في هذا الصدد وأن القرآن حقاً كلام الله. قلت لنفسي في البداية…إنني بالتأكيد على صواب بينما هم المخطئون. غير أنه مع مضيّ الأعوام وغلبة المعلومات التي وفّرها لي هؤلاء المرضى، وكان بعضهم على دراية كاملة بدينهم أهّلتهم لكي يشرحوا لي كثيراً مما كنت أجهله، تأثّرت بما سمعت. وقد أخبروني بأنني لو رغبت حقاً في دراسة الإسلام وما يتصل به فالأفضل لو تمكنّت من تعلّم اللغة العربية أولاً…”فحينها ستكون قادراً على قراءة القرآن بلغته الأصلية؛ اللغة العربية. وحينها ستدرك أن أفكارك حول القرآن كانت غير صحيحة تماماً”.
وهكذا قررت ذات يوم دراسة اللغة العربية في باريس، وكان عمري وقتها خمسين عاماً. كان تعلّم العربية في البداية أمراً بالغ الصعوبة حينما بدأت دراستي المنتظمة في المدرسة الوطنية للغات الشرقية بجامعة باريس. ولكنني فوجئت أنه في بداية العام الثالث من الدراسة كان الطلبة قادرين على قراءة مقاطع كاملة من القرآن، وهي المقاطع التي لم تكن شديدة الصعوبة، كمقاطع معينة في سورة البقرة على سبيل المثال. كنا نقرأ القرآن ونتعلّم اللغة العربية في الوقت ذاته. وأذكر جيداً أننا كنا نقوم في وقت متزامن بدراسة كتاب “الأيام” من تأليف طه حسين لإجراء مقارنة بين لغة القرآن وهي اللغة العربية الفصحى، ولغة الأدب العربيّ الحديث. كان هذا تمريناً رائعاً بالنسبة لنا كطلبة حين نقوم بمثل هذه المقارنات، فقد اكتشفنا أن لغة القرآن تعلو على أي مقارنة. حين أنهيت دراستي صرت قادراً بفضل الله على قراءة القرآن بلغته الأصلية. ليس أمراً سهلاً أن تقرأ القرآن بداية من سورة الفاتحة وحتى إتمام قراءة 114 سورة. كانت تلك قراءة مطوّلة بالنسبة لي ولكنني أصبحت بحمد الله قادراً على قراءة القرآن كاملاً. لقد قرأت القرآن دون أن تكون لدي أدنى فكرة مسبقة على الإطلاق بأنه قد يكون كلام الله. ولكنني تعرّفت مصدر القرآن الكريم بنفسي بعد ذلك.
فخلال دراستي للقرآن الكريم لفت انتباهي وجود كمٍ من الآيات المحمّلة بإشارات علمية. أعددت قائمة بها وفي النهاية تجمّع لدي ما بين 150 إلى 200 آية قمت بتبويبها وفقاً للعلوم التي تدل عليها الإشارات العلمية في تلك الآيات. لقد تأثّرت كثيراً في أثناء قيامي بتلك العملية، وقلت لنفسي حينها إن ذلك مستحيل! مستحيل أن تكون هذه الآيات من كلام البشر! فبالنظر إلى تاريخ العلوم حتى ذلك الوقت، كان من المستحيل تصوّر أن يكون بشر حائزاً لمعرفة بكل تلك العلوم التي تشير إليها الآيات المسجلة على قائمتي. وحيث إن القرآن قد أنزل منذ حوالي 1400 عام فكيف يمكن لإنسان أن يخبر عن علوم بتفاصيل لم نكتشفها إلّا في القرن العشرين. كان أول رد فعل عندي هو رد فعل شخص اكتشف بأنه كان مخطئاً في معرفته بالقرآن. ربما كانت الترجمات التي قرأت القرآن بها من قبل مسئولة عن تصوراتي غير الصحيحة. وأذكر أنني بعد تعلّم العربية كنت استشير ترجمتي مارماديوك بيكثال Marmaduke Pikthall ويوسف علي Yusuf Ali لمعاني القرآن للاسترشاد في ضوء معرفتي بالعربية للحصول على أوضح المعاني وخاصة فيما يتصل بقائمة الآيات المختارة لدي، وهي آيات متعلّقة باكتشافات علمية حديثة. وقد لاقى عملي هذا استحساناً كبيراً من أساتذتي. بعدها قمت باستشارة عدد من الباحثين. وفي النهاية ذهبت للقاء عالم الإسلاميات الفرنسي الشهير الدكتور هنري لاروسHenri Larousse ، وهو أخصائيّ معروف بتعمّقه في دراسة ابن تيمية، الذي نصحني بضرورة تأليف كتاب حول القرآن والعلم. وعلى الفور قابلت اقتراحه بالرفض قائلاً: “هل تتخيلني جراحاً معروفاً يؤلّف كتاباً عن الإسلام والعلم!؟ لست متبحراً في العلوم الإسلامية. صحيح أنني على دراية جيدة باللغة العربية تمكنّني من إجراء مناقشة حول تعاليم القرآن، ولكن هذا لا يؤهّلني لتأليف كتاب في هذا الموضوع”.
سؤال: كان ذلك بين عامي 1973 و 1974؟
دكتور بوكاي: كان تحديداً في عام 1974.
سؤال: ثم نشرت هذا الكتاب، كتابك الأول، باللغة الفرنسية…
دكتور بوكاي: دعني أروي لكم ما حدث. رفضت في البداية بشكل قاطع تأليف كتاب عن الإسلام والعلم. قال لي أصدقائي بأنه يجب عليّ القيام بذلك، لسبب رئيس هو أن علماء الدين والشريعة الإسلامية لا يمتلكون ثقافة علمية. بعد مضي أسابيع واتتني فكرة القبول. عندها عدت إلى أستاذي وأخبرته أن تأليف الكتاب ممكن شريطة دعمه لتلك الفكرة والعثور على ناشر مناسب. في ذلك الوقت كانت دراساتي المسهبة للأناجيل قد حققت تراكماً مفيداً أتاح لي أن أجمع معلومات قيّمة متعلّقة بخروج موسى عليه السلام من مصر. ولكن ما عدا ذلك من معلومات إنجيلية يمكن التعليق عليها في ضوء معلومات علمية حديثة فلم أجد نصاً واحداً يمكن قبوله علمياً. وفي النهاية أبلغت أصدقائي بأنني ربما أكتب كتاباً لا يتناول العلاقة بين القرآن والعلم فحسب بل يضمّ الإنجيل والقرآن والعلم الحديث معاً. واستغرق الأمر عاماً ونصف العام حتى صرت قادراً على الشروع في الكتابة.
نُشرت الطبعة الفرنسية الأولى من الكتاب في عام 1976، وفي الوقت الحالي يحقق الكتاب أعلى المبيعات في فرنسا. وقبيل مغادرتي فرنسا قادماً إليكم كانت قد صدرت للتو الطبعة الفرنسية الثالثة عشرة منه. وفي العام الماضي تلقيت جائزة “الكتاب الذهبيّ” Livre d’Or التي تمنح لأعلى الكتب مبيعاً في فرنسا. وقد أخبرني الناشر الباريسي أنه قام مؤخراً بطباعة حوالي 140.000 نسخة من الكتاب. وهذا لا يشمل طبعات عدة من كتب الجيب Pocket Book المخصّصة للبيع خارج فرنسا.
هذه هي القصة التي أعتقد أنه من المفيد مشاركتكم إياها لرغبتي الحارّة في أن أؤكّد لكم أن ما فعلته لم ينطلق من إيمان مسبق بالدين الإسلاميّ. كانت دراسة القرآن المقارنة مع الإنجيل والعلم بمثابة نقطة البداية والمنطلق. إن موقفي من القرآن الآن قد تبلور بعد بحث وتفكّر علميّ عميق قادني ببساطة إلى القول بأن القرآن لا يمكن أن يكون على الإطلاق من وضع بشر، وأن محمداً صلّى الله عليه وسلّم هو بالتأكيد رسول من الله، وأن القرآن لا يمكن إلّا أن يكون وحياً أوحى به الله إلى نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم…رسول رب العالمين إلى البشر. لقد رأيتم للتو كيف تطوّر تفكيري. كما بينت لكم دوافعي. وأعتقد أن هذه مقدمة جيدة لاستيعاب حقيقة أن التفكير العلميّ كان هو الأساس الوحيد الذي اعتمدت عليه فيما أنجزته من دراسة للعلاقة بين الإنجيل والقرآن والعلم الحديث. وكان البحث العلميّ وحده الأساس الذي بنيت عليه كتابي الثاني الذي يدور حول أصل الإنسان.
وفي الختام ألتمس منكم العذر إذا كانت مقدمتي مسهبة إلى حد ما، ولكني أعتقد أنها كانت ضرورية.
وهنا يعلن مدير الجلسة وقف الحوار لإقامة الصلاة.
قطع مونتاج في الشريط ثم استؤنف الحوار…
سؤال: ذكرت في كتابك أنك لم تتمّكن من العثور على أيّ تناقض بين الإسلام والعلم. هل هذا صحيح؟
دكتور بوكاي: بالطبع، فقد أجريت أبحاثي بتعمّق.
مدير الجلسة: أدعو الآن الدكتور أختر حسين ليقدم سؤاله. الدكتور أختر حسين طبيب جرّاح ورئيس أحد المراكز الإسلامية في شيكاغوMuslim Community Centre Chicago، وهناك مركز آخر سيقوم الدكتور موريس بوكاي بزيارته غداً إن شاء الله ليلقي محاضرته الأولى حيث يرأس الدكتور أختر حسين الجلسة.
دكتور أختر حسين: يؤمن السواد الأعظم من العلماء اليوم بصحة نظرية داروين التي تفترض خضوع الكائنات جميعاً، ومن بينها البشر، لعملية التطوّر. وقد قرأت كتابك واستمعت إلى بعض التصريحات التي أدلى بها علماء متعددون حول هذه النظرية ومدى إخفاقها في ضوء المعرفة التي حصلنا عليها من خلال علوم الأحياء والحيوان والإحاثة (1) Palaeontology وعلوم أخرى حديثة. ولكنني أود أن استمع منكم إلى رؤيتكم للحقائق الواقعية والملموسة التي على أساسها ترفضون نظرية داروين…لاكتشافي، على الرغم من ذلك، أن هناك عدداً متزايداً من الناس يؤمن بصواب تلك النظرية.
دكتور بوكاي: الإيمان بصوابها غباء! فنظرية داروين نظرية قديمة بالية، وفي الوقت ذاته لم يقدم داروين أيّ شيء لعلم الجينات. والآن لدينا ما يعرف بالجينوم وهذا يفسر التعديل الذي يجري على الخلايا والأنسجة والأعضاء، ولم يقدم داروين نفسه كلمة “التطوّر” في كتابه، إلّا أنه كان واقعاً تحت ضغط كبير من تابعيه، وفي الطبعة الأخيرة من كتابه وقبيل وفاته أدخل الكلمة في كتابه “في أصل الأنواع” On the Origin of Species. وقد نشر الكتاب لأول مرة في عام 1859. هذه معلومة مهمة للغاية. وما يزيد عن ذلك أهمية هو استشهادي في كتابي بما قاله داروين نفسه. ولكن يبدو لسوء الحظ أنك لم تقرأ كتابي وإلّا لما طرحتم هذا السؤال.
دكتور حسين: لقد قرأته ولكني طرحت السؤال حتى يعلم الحاضرون.
دكتور بوكاي: سأطلعكم على بعض ما كتبه داروين (يقرأ بوكاي من كتابه “أصل الإنسان”) وأنا هنا أقتبس ما كتبه داروين في رسالة إلى توماس ثورنتونThomas Thornton Esq. وأقتبس منها هذه العبارة: “إنني أؤمن بالانتخاب الطبيعيّNatural Selection ليس بسبب مقدرتي على أن أثبت، في أيّ حالة مفردة بعينها، أنه قد نجح في تحويل نوع إلى آخر، ولكن بسبب أن الانتخاب الطبيعيّ يقوم، كما يبدو لي، بالتجميع والشرح الوافي لحزمة من الحقائق المتعلّقة بعلم الأجنّة التصنيفيّ Classification Embryology وعلم تركيب الخلايا Morphology والمكوّنات العضوية الأوليّة Rudimentary Organs والتتابع الجيولوجي Geological Succession وتوزيع الأنواع الطبيعي Natural Distribution “. وهكذا نرى أن داروين لم يتمكّن، ولو في حالة واحدة، من اكتشاف أيّ مثال على حدوث التطوّر في جميع تلك الملاحظات. ويرجع ذلك إلى أن داروين قد لاحظ التغييرات في إطار نوع واحد. ولكنه لم يلاحظ تطوّر أو تحوّل جنس أو سلالة إلى جنس أو سلالة أخرى. وهذا هو موضوع التطوّر. إن نجاح داروين كان رائعاً بسبب جملة من الأسباب؛ في مقدمتها أنه كان المتحدي الأول للإنجيل في نظر السلطات الدينية في بريطانيا في ذلك الوقت. وبدلاً من أن يقولوا لداروين بأن الإنجيل يؤكّد أن هناك ثباتاً في الأنواع، هاجموه. والواقع أن مؤلفي الأناجيل قد كتبوا ما كتبوه من معلومات علمية وفقاً لما كان شائعاً في عصورهم. وفي هذه الحالة من المستحيل الاعتقاد بخلو الأناجيل من الأخطاء. ولكن الكنيسة أصرّت على اعتبار الإنجيل كلام الله ولا يمكن مناقشة موضوع ثبات الأنواع. كان هذا أحد أسباب الصراع بين الداروينية والمسيحية. واتخذ أصحاب العقائد المادية من داروين مثالاً منذ ذاك، واستمر تابعوهم على هذا النحو إلى اليوم. وبالنسبة لي فإن قيمة كتاب داروين هي نفس قيمة كتب الأطباء، أو من أسموهم أطباء، في زمن مؤلفنا المسرحيّ الشهير موليير. فبينما كان حديث هؤلاء الأطباء يتمحور حول الأرواح وأشياء أخرى، كان داروين يتحدّث عن ملاحظاته حول نظرية الانتخاب الطبيعيّ. إنها مجرد كلمة تخلو تماماً من أية ملاحظة ملموسة مبرهن عليها. إن ذيوع صيت داروين راجع إلى اصطدامه بالسلطات الدينية وهو إنجاز لا يزال مستمراً إلى يومنا هذا.
سؤال: ذكرت في كتابك “أصل الإنسان” أن علم الحفريات يقدم لنا نظرية للتطوّر المتعاقب أو بروز الحيوانات الرئيسة، ثم ذكرت أن الكائنات البشرية Homo Sapiens قد ظهرت من الأرض. هل تؤمن تبعاً لذلك بالتحوّل المورفولوجي، الناتج عن تكوين الخلايا، للكائنات البشرية؟
دكتور بوكاي: بالتأكيد.
سؤال: هل أمكنكم تفسير ذلك في ضوء الآية القرآنية التي أعتقد أنها وردت في سورة نوح:
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا {71/14}
دكتور بوكاي: بالتأكيد.
سؤال: هل شرحت ذلك على أساس الآية القرآنية أم على أساس التطوّرات الجنينية التي يمرّ بها الجنين في الرحم؟
دكتور بوكاي: على الأساسين معاً حيث يتعيّن وجود بعض التغييرات والتعديلات في أرحام الأمهات للحصول على النتيجة النهائية. وهذا تحوّل يحدث لأحد مخلوقات الله وهي النوع الإنساني. لاحظ أنني لم أكتب كلمة “تطوّر” حيث إنها تعني تحوّل نوع أو سلالة إلى نوع أو سلالة أخرى. في هذا الكتاب أشرت إلى “تحوّل” الكائنات البشرية واستخدمت كلمة التطوّر مع مملكة الحيوان، وهذا هو الاختلاف.
سؤال: هل تعتقد أن هناك تطوّراً في المملكة النباتية والمملكة الحيوانية وليس في النوع البشريّ؟
دكتور بوكاي: بالطبع.
سؤال: كيف ذلك؟ إن ما أحاول الوصول إلى إجابة عنه هو لم قبلت بفكرة التطوّر في المملكتين الحيوانية والنباتية ولم استثنيت الإنسان منها؟
دكتور بوكاي: لم استثن أحداً ولكنها الحقيقة ماثلة أمام أعينكم. إنّ التطوّر في المملكة الحيوانية والنباتية واقع لا يمكن لأحد رفضه على الإطلاق. وهي عملية شرحها بسيط. تعرفون تمام المعرفة أن ظهور الإنسان على سطح الأرض حديث جداً مقارنة بظهور الكائنات الحية الأولى على كوكبنا، ومن الواضح أن ذلك بدأ منذ نحو بليوني عام أو ثلاثة بلايين عام تقريباً. كانت الكائنات الحية في تكوينها الأوليّ البدائيّ موجودة على الأرض، في حين أن سلالة أسلاف البشر Homo Sapiens، يرجع تاريخ ظهورها إلى حوالي أربعة ملايين عام. وقبل تلك الهيئات البدائية للكائنات البشرية لم يكن هناك شيء يذكر. ولا يوجد أيّ رابط على الإطلاق بين النوع الإنساني وغيره من الأنواع. ولكن علم الإحاثة لا يكفي وحده لتفسير نشأة الإنسان. ففي الوقت الحاليّ لدينا علم الأحياء الدقيقة وعلم الجينات ولدينا الكثير ممّا يكتسب أهمية بالغة في مساعدتنا على شرح عملية التحوّل في النوع البشريّ، وفهم عملية التطوّر في المملكة الحيوانية. هذه وجهة نظري، وقد تكون لديكم وجهة نظر مخالفة. ولكنني أريد أن أوضّح هنا ماذا أعتقد. إن رؤيتي متوافقة تماماً مع القرآن ومتعارضة تماماً عما ورد في الأناجيل حيث يشار إلى ثبات الأنواع بصورة واضحة وفقاً لما كان سائداً من آراء في العصور التي عاش فيها مؤلفو الأناجيل.
سؤال: هذا التطوّر الذي شرحتموه للتو يمثّل مشكلة بالنسبة للمؤمنين الذين يعتقدون أن آدم كان أول البشر على ظهر الأرض وقد خلقه الله وخلق حواء من آدم. لو كانت عملية التطوّر تلك حقيقة علمية فمن كان إذن في رأيكم أول إنسان ظهر على كوكب الأرض؟
دكتور بوكاي: إن آدم ما هو إلّا رمز…ومن الممكن طرح أيّ اسم آخر. لقد ذكر اسم آدم في القرآن وهو يعني الإنسان الأول. كان من الضروريّ وصف البداية في القرآن. وبالنسبة لي ليست هناك أدنى مشكلة في ذلك.
مدير الجلسة: يجب أن أقدم الآن الدكتور أحمد صقر وهو عالم في كيمياء التغذية الحيوية، ورائد في العمل الإسلاميّ في هذا البلد، وعلاوة على هذا هو أحد مؤسسي اتحاد الطلبة المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا. وهي المنظّمة التي تطوّرت فيما بعد لتصبح الجمعية الإسلاميّة بأمريكا الشمالية Islamic Society of North America. ويقوم الدكتور صقر بالمشاركة في كثير من الأنشطة الإسلامية في الوقت الذي يدير فيه الفرع الرئيس لرابطة العالم الإسلاميّ Islamic World League في نيويورك، رجاء دكتور أحمد تفضل بطرح أسئلتك على الدكتور موريس.
دكتور أحمد صقر: ذكرت في الفصل الأخير من كتابك “أصل الإنسان” شيئاً عن التطابق بين الدين والعلم. حبذا لو تمكنت من التعليق على هذه النقطة ولو بقليل من الإسهاب لأنني أعتقد أن هذا سيكون مفيداً لنا بكل تأكيد. هل عنيت بقولك هذا جميع الأديان أم الدين الإسلاميّ على وجه الخصوص؟
دكتور بوكاي: جميع الأديان. ولكن فيما يتعلّق بالعهد القديم علينا أن نتذكّر دوما حقيقة أن الأناجيل قد كتبها بشر وأن جميع الوصايا الدينية قد أوحيت إلى مؤلفي الأناجيل. هذا ما يؤمن به كل مفسّر في المجتمعات المسيحية واليهودية. وإذا أخذنا في الاعتبار المعلومات الواردة في الأناجيل، مما لا يعتبر تعاليم دينية، فالحقيقة هي أن هؤلاء المؤلّفين قد كتبوها وفقا لما هو شائع من أساطير وخرافات كانت سائدة في أزمانهم. وفي أميركا قرأت عدداً من الكتب لمؤلفين مسيحيين، وقد أذهلني ما توصّلوا إليه فيما يتعلّق بما ذكرته للتو ومنها كتاب بحوزتي الآن لستيفن بيتر ستونر وروبرت نيومان عنوانه “عندما يتحدث العلم” Science Speaks ويتناول نصاً فلكياً ورد في العهد القديم في سفر التكوين. ومن يطالع الكتاب سيدرك أنه إذا كان هذا النص المتصل بعلم الفلك من تأليف بشر عرضوا ما كان شائعاً في عصورهم فينبغي أن نتوقع وفرة من الأخطاء. ولعله من الصحيح أن نفترض أن مؤلفيّ الكتاب ليست لديهما أدنى فكرة عن أصل الأناجيل. ولكن الأمر مختلف تماماً في فرنسا حيث يقبل مفسّرو الكتاب المقدس المعاصرون، وبشكل كامل، حقيقة المصدر البشريّ للأناجيل. ولعله يمكنني هنا الاستشهاد بفقرة من مقدمة ترجمة للعهد القديم إلى الفرنسية نشرت في عام 1955 في باريس. وشارك في إنجاز الترجمة ما يزيد عن مائة كاهن بروتستانتي وكاثوليكي وهي أكثر ترجمات العهد القديم استخداماً في أوساط القساوسة وآباء الكنيسة البروتستانتية في فرنسا. تقول الفقرة الواردة في مقدمة الترجمة “في أيامهم كان من المعترف به بين الناس أن مؤلّفي الأناجيل هم المتحدثون الرسميون باسم الله وأن قسماً كبيراً من مؤلّفاتهم كان متأثّراً بموروثات مجتمعاتهم. وقبل الصياغة النهائية لهذه الكتب تم تمريرها بين قرّاء من المؤمنين خلال فترة زمنية محددة. إن الأناجيل تحمل اليوم بصمات تعليقات هؤلاء القرّاء القدامى في شكل تغييرات وتبديلات وإشارات ومُضمّنات وفي بعض المواضع إعادة صياغة كاملة لمقاطع ذات أهمية كبيرة. بل إن أحدث طبعات الأناجيل تدخل على متونها أحياناً تفسيرات جديدة وتظهر نصوصها تحديثات لطبعات قديمة”. وقد قمت في كتابي “أصل الإنسان” (1981) بتلخيص ما عرضته بإسهاب في “الإنجيل والقرآن والعلم” (1976) حول الأصل البشريّ للأناجيل. وقد لقي الكتابان اهتماماً واضحاً من السلطات الكنسية الفرنسية من خلال مكتب “الكتاب المسيحي” في باريس. وفي قائمة مهام هذا المكتب عرض تحليلات وتعقيبات في نشرته الشهرية على الكتب المنشورة في الشهر السابق بهدف تقريظ بعض الكتابات والتوصية بقراءتها لجمهور المسيحيين لتعزيز قوة الإيمان لديهم. عن كتاب “أصل الإنسان” جاء في النشرة ما يلي…وأمامي نص التعليق الفرنسيّ: “يتميّز الكتاب بأنه يظهر غياب التعارض بين الإنجيل والعلم والقرآن (وفي حالة الإنجيل هناك بعض المحاذير – هذا ما كتبوه) ولعل الجزء المكتوب عن القرآن هو الأنسب لهؤلاء الذين لا يمتلكون أية معرفة بالقرآن”. هكذا دعت الكنيسة المسيحيين؛ أنه في حال عدم توافر المعرفة الكافية لديهم بالقرآن يمكنهم قراءة كتاب الدكتور بوكاي الذي أذكر فيه أن القرآن كلام الله. وأضافت النشرة قائلة للفرنسيين إن كتاب الدكتور بوكاي يجب أن يستخدم كأداة للدراسة الجماعية في الفصول الأولى من سفر “التكوين”. كما أوصت النشرة المسيحيين بفحص انتقاداتي الموجهة إلى العهد القديم المتعلّقة بأصل الإنسان في الوقت الذي أكد فيه المكتب على قراءة كتابي لمن ليست لديه معرفة بالقرآن. هكذا أكون قد أجبت السؤال الخاص برد الفعل الفرنسيّ على صدور كتابيّ.
سؤال: أعتقد أنك قمت بالفصل، في حالة الأناجيل والعهد القديم، بين التعاليم الدينية وهي جيدة وبين المعلومات العلمية التي ثبت تناقضها مع العلم.
دكتور بوكاي: فيما يتعلّق بالعلم فإن المعطيات التي أثبتتها العلوم الجديدة نسبياً كعلم الأحياء الدقيقة وعلم الجينات قد أثارت اهتماماً واضحاً. وأعرف شخصياً عدداً من العلماء الفرنسيين ممن تركت فيهم الاكتشافات الجديدة أبلغ الأثر مما أدى إلى تحوّلهم إلى الإيمان بالله. أعرف عدداً من الأشخاص الذين كانوا ماديين من قبل وقد أتوا إليّ الآن قائلين بأنهم لم يجدوا مناصاً من الإيمان بالله بما توافر لديهم من أدلة وبراهين متعلّقة بتنظيم الحياة وتنظيم الجزيئات الدقيقة الخاصة بالشفرة الوراثية – الجينوم Genome وما شابه ذلك.
سؤال: هل تود إضافة جملة أو اثنتين عن العلم والقرآن لكي يتضح تماماً أننا بينما تناولنا الأديان الأخرى، تحدثنا كذلك عن الإسلام وعلى وجه التحديد القرآن والعلم. أعرف أنك خصصت كتاباً كاملاً لهذا الموضوع.
دكتور بوكاي: بالطبع، غير أن الوقت لا يسعفني لحصر الموضوع في دقائق معدودة. ولكنني أود إخباركم عن أبلغ ما ترك في نفسي من أثر أثناء قراءاتي الأولى للقرآن. إن كوني طبيباً كانت له علاقة فورية مع الآيات الواردة في القرآن الكريم المتعلّقة بالفسيولوجي (علم وظائف الأعضاء) وبالتناسل البشريّ. في عام 1976 في محاضرة ألقيتها في أكاديمية الطب الوطنية الفرنسية في باريس أتيت على ذكر كلمة “قرآن” للمرة الأولى في تاريخ هذه الأكاديمية. ألقيت محاضرة عنوانها “معطيات فسيولوجية وجنينية في القرآن”. وأستطيع هنا أن أخبركم عن حجم التأثّر لدى أعضاء الأكاديمية الذي بلغ حد الذهول! لم يعارض أحد أيا من المعلومات التي ذكرتها. سألتهم إن كان يمكنهم تخيّل، في ضوء ما نعلم عن تاريخ العلوم، أن رجلاً عاش منذ قرابة أربعة عشر قرناً استطاع تأليف هذه المعطيات. لم ينطق أحد لأنهم كانوا مأخوذين تماماً بما سمعوه. وكان السؤال الوحيد الذي طرحه عضو بعد المحاضرة ما يلي:
“هل أنت واثق من أن النصّ الحاليّ للقرآن هو نفسه النصّ القديم؟” أجبته “اذهب إلى المكتبة الوطنية الفرنسية وستجد فيها نسخة من القرآن يعود تاريخها إلى القرن الثامن للميلاد، ثم قم بالمقارنة بين النصّ القديم والنصّ المنشور في عصرنا وستجد أن التطابق كامل بينهما”.
كان هذا سؤالاً وليس اعتراضاً. وأنا واثق اليوم من أن هذه المحاضرة لم تنسى.
مدير الجلسة: قبل توجيه السؤال التالي أود أن أسألك عن أصل الإنسان. فمن جانب نقرأ في الآية 14 من سورة الرحمن:
خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ {55/14}
والصلصال هو الطين كما نعرف ووفق ما تتفق عليه الترجمات. وفي جانب آخر وموضع آخر نقرأ في جزء من الآية 7 من سورة السجدة:
…وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ {32/7}
وفي موضع ثالث في جزء من الآية 11 من سورة الصافّات:
…إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ {37/11}
وفي جزء من الآية 67 من سورة غافر:
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ…
وتجتمع معاني تلك الكلمات حول التراب والتربة…وفي موضع آخر نقرأ في جزء من الآية 54 من سورة الفرقان:
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا…
ثم نقرأ في جزء من الآية 32 من سورة النجم:
…إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ…
تبدو هذه المسمّيات مختلفة في الظاهر. فأيّ منها هو الصحيح أم أنها جميعاً صحيحة في الوقت عينه؟
دكتور بوكاي: أعتقد أن هذا كله نجد تفسيره في آيات أخرى من القرآن تتناول مكوّنات الجسم البشريّ المركّبة من عناصر هي في الأساس جزيئات طبيعية من ذرّات يحتويها التراب. ومع تركيب معيّن تبعاً لإرادة الله فقد خلق الإنسان كما نعرفه. إنني أتأمّل كلمة “ركَّبَكَ” في الآيتين 7 و8 من سورة الانفطار:
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ {82/7} فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ {82/8}
والتي تعني أن الإنسان مخلوق من جماع مكوّنات كالتراب والماء والأرض وما إلى ذلك، وهي في الأساس عناصر طبيعية مع بعض التركيب الخاص. ثم هناك الآية 4 من سورة التين:
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ {95/4}
وهي آية ذات أهمية بالغة، وقد قمت بترجمتها كما يلي:
“لقد صغنا – صممّنا الإنسان وفقاً لأحسن خطة تنظيمية” والكلمة العربية تَقْوِيمٍ الواردة في نصّ هذه الآية تعني تخطيط شيء ما وفق خطة منظّمة.
المصدر الرباعي “تقويم” والفعل “يقوّم” والماضي “قوّم” أي عدّل وشكّل.
سؤال: فلنعد إلى الكلمات الأصلية وهي التراب والطين ثم كلمة ماء. فلو نظرت إلى الماء لقلت؛ هذا صحيح، بالنظر إلى احتواء الجسم البشريّ على 70% من مكوّناته من الماء. ولكن لماذا قلت تراب وطين؟ إن حضورهما غير واضح في تكوين الجسم البشريّ.
دكتور بوكاي: الماء هو أهم مكوّن من مكوّنات الجسم البشريّ. ولكني أوصيك بالعودة إلى قراءة ما أوردته في كتابي عن هذا الموضوع.
دكتور صقر: (معلّقاً على السؤال) حتى لو قمت بخلط تلك المكوّنات بالماء فسنطلق عليه اسم محلول مائيّ أو محلول، وستظلّ المكونات جزءًا من تركيبة هذا المحلول. حتى خلق الإنسان يبدأ مما نعرفه بالحيوانات المنوية المتضمّنة في شكل سائل أيضاً.
سؤال: لدي سؤال نقديّ حول هذه النقطة. يذهب البعض إلى أن القرآن يستخدم كلمات مختلفة تعبّر عن معنى واحد في مواضع مختلفة. كيف يمكن جمعها معاً؟
دكتور صقر: هنا يتضح جمال اللغة العربية، ومن لا يعرف اللغة العربية سيشعر بشيء من الحيرة عند قراءة ترجمة معاني القرآن الكريم. وهي ترجمات لا يمكن بحال أن تفسّر المعاني الصحيحة كما هي في النصّ العربيّ. إن هذه الكلمات متعدّدة وليست مختلفة. إنها ترد في القرآن في مواضع متعدّدة لتكتمل معانيها وهي تشرح مكوّنات الكائن الإنسانيّ.
دكتور بوكاي: أعتقد أن هذه فكرة عامة مهمة بالنسبة لي. وهذا يعني أننا خلقنا من ذرّات مكوّنات طبيعية وأنا واثق من صدق فهمي للمعاني العميقة لكلمات القرآن التي تحدّد خلقنا وفق خطة تنظيمية خاصة، وأننا خلقنا من مكوّنات من تراب وأننا سنبعث يوماً من التراب ويعاد تركيبنا للحياة الآخرة. وبالنسبة لي لا توجد أية مشكلة على الإطلاق في إدراكي هذا. إن ما يجب اعتباره هنا هو الفكرة العامة. ولن يعدّل هذا من استنتاجاتي التي نشرتها في كتبي وأنا واثق من أنكم تشاركونني إياها.
مدير الجلسة: أقدم لكم الآن الدكتور سمير حسن وهو طبيب نفسيّ، وناشط إسلاميّ في منطقة شيكاغو.
دكتور سمير حسن: هناك آيات في القرآن الكريم تجعلني أتمسّك بما نناقشه اليوم حول التطوّر الإنسانيّ وهما الآيتان 7 و8 من سورة السجدة:
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ {32/7} ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ {32/8}
دكتور بوكاي: السلالة هي المادة الجوهرية، ليس لدي ما أضيفه على ذلك.
دكتور حسن: ثم نقرأ في جزء من الآية 20 من سورة العنكبوت:
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ…
أعتقد أن كلمة “خَلْقَ” هنا، بحسب ما أفهمه، تعني خلق المخلوقات.
دكتور بوكاي: هل تعني هنا الفعل “خَلَقَ”؟
دكتور حسن: نعم.
دكتور بوكاي: تأثرت كثيراً بالمعنى الأولي لكلمة “خَلَقَ” حيث تعلمنا في المدرسة أن معناها “شكّل”. والمعنى الأصليّ للكلمة مرادف للتشكيل، أما المعاني الاشتقاقية فقد وردت في القرآن لأن الله هو الذي خلقنا، وهو أهل للخلق. وأعتقد أنه في معظم الحالات، وبغرض تيسير فهم النصّ القرآنيّ، يتعيّن علينا أن نتذكّر دوماً ما تعنيه المعاني الأولية للكلمة. خَلَقَ تعني شكّل وغالباً ما ترجمتها بهذا المعنى في كتبي. وكلمة “يخلُقُ” في معناها الاشتقاقيّ فعل منسوب إلى الله. هذه إجابتي.
الدكتور حسن: بالنسبة لي، عندما أقرأ هذه الآية، أراها مرتبطة بنوع من العمليات التطوّرية:
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ…
دكتور صقر: لو سمحتم لي بتعليق على كلمتي بَدَأَ الْخَلْقَ الواردتين في الآية. أعتقد أن الكلمتين لا تشيران بالضرورة إلى حدوث عملية تطوّر في الخلق، بل إلى الكيفية التي خلق الله بها العالم كله. بوسعنا أن نشير إلى ذلك، ولكن لننظر إلى الآيات القرآنية في مجملها وسوف نصل في النهاية إلى النتيجة ذاتها وهي أنه لم تحدث عملية تطوّر. لا شيء تم إخضاعه لعملية تطوّر أثناء خلق العالم. ولذا علينا أن نشكر الله الذي خلق العالم بكليته. هذه هي ملاحظتي المتواضعة. وأنا سعيد باستخدامك كلمة “شكّل” في شرح الخلق. “شكّل” كلمة جميلة وقد شكّلنا الله وهو يخلقنا.
دكتور بوكاي: لقد أتيح لي أن أناقش المعاني الأولية الدقيقة لمعنى كلمة “خَلَقَ” مع بروفيسور متخصص في اللغة العربية.
دكتور صقر: إذا أراد قارئ للقرآن الإشارة إلى فكرة أن الإنسان قد خلق من سلالة أخرى، فقد ذهب بعض مفسّري القرآن إلى أن الآية 30 من سورة البقرة:
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قال إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {2/30}
توحي بأنه قد تكون هناك مخلوقات بشرية أخرى عاشت قبل خلق آدم. غير أن آدم المذكور في القرآن هو جدنا الأعظم الذي انحدرنا من سلالته. من عساها تكون إذن تلك الكائنات البشرية التي سبقت خلق آدم؟ الله أعلم. فلم يخبرنا الله عنها.
سؤال: تحدثت عن عثورك على أدلة معاصرة متعلّقة بفرعون الخروج. هلاّ تفضلّت، إذا كان ممكناً، بمشاركتنا هذه المعلومات؟
دكتور بوكاي: لو تفضلّتم بمنحي ساعة لعرض الشرائح التي أحملها…إن هذا قد يتطلّب وقتاً طويلاً!
مدير الجلسة: لدى الدكتور بوكاي 77 شريحة وسيحتاج إلى مدة قدرها 55 دقيقة لعرضها. لا أعتقد أن هذا ممكن في هذه الجلسة.
دكتور بوكاي: فيما يتعلّق بالسؤال دعوني أخبركم عن معلومات لم أنشرها في كتابي “الإنجيل والقرآن والعلم”.
سؤال: هل هناك أية اكتشافات علمية جديدة متعلّقة بفرعون بعد إصدار الكتاب؟
دكتور بوكاي: من المؤكّد أن هناك عدداً من الاكتشافات الجديدة التي أُعلن عنها في الأعوام التي تلت نشر الكتاب. فعلى سبيل المثال لم أورد في كتابي حقيقة أن اسم “هامان” مذكور في القرآن ست مرات. وربما تتذكرون أنه حينما طلب فرعون من هامان أن يبني له صرحاً حتى يطلّع إلى إله موسى، قمت بزيارة اختصاصي فرنسيّ في اللغة الهيروغليفية في باريس وأخبرته أنني اطلعت على نص ورد في القرن السابع للميلاد. ولأن معرفة هذا العالم باللغة العربية جيدة فقد كتبت كلمة “هامان” أمامه فقال لي: “من المستحيل أن تكون كلمة “هامان” عربية، لأن هامان اسم من الهيروغليفية”. ومبعث الاستحالة في تعليقه أن اللغة الهيروغليفية كانت، بين القرنين الثالث والتاسع عشر للميلاد، مجهولة تماماً. قلت له: “نعم مستحيل. ولكنك سترى حتماً رأياً آخر حين أطلعك على ذلك النص العربيّ”. وعندما تساءل عن ماهية النص طلبت منه أن يخبرني أولاً عن معنى كلمة “هامان” في الهيروغليفية. أجاب “بأن الكلمة اسم عائلة في الأسر الفرعونية الحديثة (2)، ولو قصدت مكتبة كوليج دي فرانس College de France فستجد فيها المعجم الشهير للأسماء الهيروغليفية للألمانيّ رانكه Ranke. وفي الفصل الخاص بالأسماء في الأسر الحديثة قد تعثر على هذا الاسم” وأضاف قائلاً: “إنه لا يذكر بالتحديد وظيفة هامان ولكنك ستجدها حتماً في ذلك المعجم”. وهكذا توجهت إلى مكتبة الكوليج دي فرانس ووجدت تحت اسم هامان ما يلي: “هامان – مدير المحاجر الفرعونية…رئيس العمال…البنّاء بالأحجار” لأن البناء كان آنذاك بالأحجار وليس بالأخشاب. وهكذا عثرت في معجم الأسماء الهيروغليفية على اسم هامان الذي طلب منه الفرعون أن يبني له صرحاً. بعد أن دوّنت معنى كلمة هامان عدت إلى ذلك المتخصص في اللغة الهيروغليفية حاملاً نسخة من القرآن بالعربية…أريته واحدة من الآيات الست التي تذكر هامان فأصيب الرجل بذهول لم يستطع معه للحظات أن ينطق. أخبرته أنه مثلما حفظ الإنجيل اسم رمسيس، حفظ القرآن اسم هامان. كان مأخوذاً تماماً. بعد قليل اقترح عليّ فكرة أن نتشارك في تأليف كتاب عن هذا الموضوع…غير أن المنية وافته بعد ستة أشهر. لدينا هنا معلومة عن فرعون موسى وهي معلومة مثيرة للدهشة لصحتها من منظور البحث العلمي اللغوي الحديث واللغة الهيروغليفية.
أما فيما يتعلّق باسم رمسيس الوارد في الكتاب المقدس فلدي ما أخبركم به. فقد قرأت الاسم باليونانية في أقدم نسخ الإنجيل كما قرأته في أقدم ترجمات الإنجيل إلى اللاتينية والفرنسية. لقد احتفظ الإنجيل باسم رمسيس وأشعر حقاً بالامتنان للإنجيل الذي ساعدني على كتابة الفصل الخاص بالخروج في كتابي “الإنجيل والقرآن والعلم” بما احتوى من تفاصيل تتعلّق بتحديد موقع ولادة موسى عليه السلام تحت حكم رمسيس الثاني ثم خروجه وبني إسرائيل تحت حكم خلفه. إن الإشارة إلى رمسيس تكتسب أهمية بالغة. وخلال محاضرة الغد أنوي تكرار كل ذلك مع الشرح على اللوحة باللاتينية والإغريقية والإنجليزية لاسم هامان الذي حفظه القرآن، ثم لاسم رمسيس الذي حفظه الإنجيل مبيناً أهمية هذا الحفظ في مسار البحث التاريخيّ.
سؤال: هناك هذا المفهوم للنشأة الأولى القائم على أن خلق آدم عليه السلام قد تم بتشكيله من الطين ثم نفخ الروح فيه. هذا ما يتحدث عنه الناس. والسؤال هو من أين جاء هذا المفهوم؟
دكتور بوكاي: لا يمكنني التعليق حقيقة بسبب أن هذه المناقشة حول آدم وطين آدم ليست بذات أهمية في تقديري. أنا آسف لهذه الإجابة عن سؤالك. بالنسبة لي فإن آدم هو رمز. فقد خلقنا الله من مركبات من التربة. من الممكن أن نستفيض في هذا النقاش ولكنه ليس بذي أهمية كبيرة بالنسبة لي.
سؤال: أعمار الناس في الأزمان الغابرة بالغة الطول وفق ما ذكر في الإنجيل والقرآن؛ يذكر الإنجيل أن آدم عاش 1000 سنة بينما يرد في القرآن أن نوحاً عليه السلام قد عاش 950 سنة. هل هناك من تفسير علميّ لهذا؟
دكتور بوكاي: يمكن بسهولة تحديد التاريخ المتعلّق بخلق الإنسان في التقويم المسيحيّ واليهوديّ وهو أمر لا أفهمه. فوفقاً لما هو وارد في الإنجيل فقد ظهر الإنسان الأول على سطح الأرض منذ 57 أو 58 قرناً. أما القرآن فلا يورد أي إشارة أو تحديد تاريخيّ لظهور الإنسان الأول.
سؤال: عفواً…كان سؤالي عن أعمار الناس في الأزمنة القديمة لأن القرآن يذكر أن نوحاً عليه السلام لبث في قومه 950 عاماً.
دكتور بوكاي: هل يمكنك التفريق بين سنة Sanah وعام Aam؟ لم يتمكن أيّ شخص سألته من أن يوضّح لي الفارق بينهما. لقد مكث نوح في قومه. لا يعني هذا أن تلك هي الفترة التي عاشها. لقد كتب مفسّرو القرآن، مثلما كتب مفسّرو الإنجيل، مثل ذلك، لقد مكث في أهله طوال هذه الفترة، ولكن ماذا تعني كلمة ألف سنة، ربما كانت دالّة على فترة بالغة الطول وربما لم تكن سوى كلمة رمزية. ولكن ما هو الفارق فيما بين سنة وعام؟ لا أحد يمكنه تقديم إجابة. لقد كتبت مقالاً حول ذلك نشر في تونس قلت فيها إنني لا أفهم وسأكون ممتنّا لو قدم لي أيّ منكم إجابة عن ذلك.
دكتور صقر: لا يمكنهم الإجابة لأنهم يعتبرون الكلمتين حاملتين للمعنى نفسه.
دكتور بوكاي: لا يوجد في القرآن شيء واحد يحمل اسمين مختلفين.
دكتور صقر: ولكن افترض أنهما كلمتان تحملان المعنى نفسه؟
دكتور بوكاي: قد تفترض أنت ولكني لا أفترض. أرفض الافتراض، وأفضل أن أقول لا أعلم أو لا أفهم.
سؤال: دكتور بوكاي…لو كان تحديد التاريخ هنا يعني وقتاً طويلاً فلماذا خصّص القرآن إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا في الآية 14 من سورة العنكبوت:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ {29/14}
وقد قلت إن ألف سنة تعني وقتاً طويلاً…ولكن القرآن يحدد أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا.
دكتور بوكاي: هذا يعني أنه لم يمكث في قومه خلال الخمسين عاماً تلك.
دكتور صقر: إن نوحاً عليه السلام لم يُكلّف بالنبوة إلّا حين بلغ الخمسين من عمره.
دكتور بوكاي: ولكنك لست واثقاً من ذلك.
دكتور صقر: نعم. ولكن إذا أخذنا في الاعتبار المعاني الأدبية…
دكتور بوكاي: نعم. فلم يلبث نوح عليه السلام في قومه خلال الخمسين عاماً تلك. هذه حقيقة وأعتقد أن الجميع يتفق معي في ذلك. ليس عندي ما أضيفه على ذلك.
دكتور صقر: لو كنت أفهم سؤال الزميل جيداً أعتقد أنه يريد تعليلاً لم كان الناس في العصور القديمة يعيشون طويلاً.
دكتور بوكاي: لم يأت القرآن على ذكر ذلك. إنها مسألة رمزية في تقديري.
دكتور صقر: الشيء الوحيد الذي نعرفه هو حديث للنبيّ محمد صلّى الله عليه وسلّم يقول فيه إن أعمار الأمّة تتراوح بين 50 إلى 60 عاماً والقليل منهم سيعيش لمدة أطول. هذا هو ما نعرفه ولا يمكننا التعليق على ذلك.
دكتور بوكاي: بالتأكيد. وإلّا سيكون تعليقاً مسهباً.
مدير الجلسة: دكتور زاهد علي طبيب يمتهن علم الأمراض Pathology وقد اعتنق الإسلام منذ سبعة أو ثمانية أعوام، ومنذ ذلك الحين أصبح ناشطاً إسلامياً فعّالاً في منطقة شيكاغو.
دكتور زاهد علي: دكتور بوكاي…لديّ عدة أسئلة ولكن دعني أنقل إليك ما يطرحه من ألتقي بهم والمترددون علىّ من تساؤلات وهي في مجموعها تلخّص محتوى أسئلتي التي تعني غير المسلمين الذي قد يستمعون يوماً إلى هذا التسجيل، ومن المحتمل أنهم لم يقرؤوا كتابك. لقد ذكرت آنفاً أثناء الجلسة أن ما أثار اهتمامك وترك أبلغ الأثر فيك كطبيب، خلال دراستك التحليلية للقرآن، كان ما لفت نظرك من إشارات إلى علم وظائف الأعضاء Physiology وعلم الأجنّة والتناسل الإنساني Human Reproduction Embryology & في آيات من القرآن. هل هناك أمثلة أخرى مشوّقة ومثيرة يمكن أن تلخّصها لنا من أجل جذب انتباه غير المسلمين؟
دكتور بوكاي: لقد كتبت عن هذا كله في كتابي “الإنجيل والقرآن والعلم” وهو حافل بكثير من الأمثلة كما يحتوي على فصول عدة. ويعتبر الفصل الذي أتناول فيه موضوع الخلق من أكثر الفصول أهمية بسبب احتوائه على أشياء شديدة التأثير. وقد خصّصت فصلاً مهماً لعلم الفلك. ثم فصل مهم للغاية مخصّص لجيولوجيا الأرض وعرض ما أورده القرآن فيما يتعلّق بتثبيت الجبال كأوتاد. فأطراف الجبال السفلية يعبّر القرآن عنها بكلمة “أوتاد”. وهناك فصل آخر عن مملكة الحيوان والنبات. ويمكن العثور في الكتاب على استنتاجات بالغة التأثير متعلّقة بالتناسل البشريّ أيضاً.
دكتور زاهد علي: لعل السبب وراء طرحي لهذا السؤال هو أن السبيل الناجح للتأثير في غير المسلمين هو عرض شهادات باحثين متعمقين في القرآن، مثلك تماماً، حيث إنك مرجع دوليّ في هذا النوع من الموضوعات. فما الذي ترك فيك أبلغ الأثر كطبيب على وجه الخصوص في القرآن؟
دكتور بوكاي: كما قلت آنفاً…كانت الإشارات المتعلّقة بعلم وظائف الأعضاء هي ما اجتذبني وأثار اهتمامي كله. انظر إلى ذكر مكوّنات اللبن. إن الكلمات العربية الواردة في القرآن مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ تعلن عن الحقيقة العلمية المتعلّقة بالامتصاص الهضميّ Digestive Absorption.
ترد الكلمات في الآية 66 من سورة النحل:
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ {16/66}
دكتور زاهد علي: هل يمكنك أن تتبحّر ولو قليلاً في الإشارات العلمية المتعلّقة بعلم الفسيولوجي والتي تركت تأثيرها العميق فيك كما ذكرت؟
دكتور بوكاي: سوف يتطلب ذلك وقتاً طويلاً، وقد كتبت عن هذا كله في كتابي “الإنجيل والقرآن والعلم” ويمكنك الرجوع إليه.
دكتور زاهد علي: أتفهم المدى الزمنيّ المحدود لهذه الجلسة، ولكن سؤالي التالي لك هو أنه باعتبارك عالماً بارزاً تأثّر أبلغ الأثر بالقرآن والنصوص المتصلة به، كيف يمكنك إثارة اهتمام زملائك من غير المسلمين بهذا النوع من الدراسات؟ كيف تقدم لهم موضوعات كهذه وكيف تحثّهم على تأمّل بعض ما توصلت إليه بوجه خاص؟
دكتور بوكاي: إن كانوا أطباء أتحدث معهم عن الإشارات العلمية المتعلّقة بعلم وظائف الأعضاء والتناسل البشريّ، وإن كانوا علماء فلك فالحديث عن الفلك، ولو كنت أحادث اختصاصيين في علم النبات فلديّ ما أطرحه عليهم متعلّقاً باختصاصهم لأنه يلزم أن تكون حساساً تجاه ما تعرفه جيداً من منظور علميّ.
دكتور زاهد علي: بم تنصح شخصاً غير مسلم أو شخصاً مهتماً بإجراء دراسة تحليلية معمّقة في القرآن؟
دكتور بوكاي: أن يبدأ في تعلّم اللغة العربية، فبدون إتقانها لن يتيسر له فعل أيّ شيء. لذا بدأت دراسة العربية، كما أخبرتكم، حين بلغت الخمسين من عمري.
سؤال: هل يتعين على الراغب في دراسة اللغة العربية أن يخالط الناطقين بالعربية أو أن يستقرّ في دولة عربية كي يتعلم العربية، وهل يمكنه إتقانها دون ممارسة الحديث بها؟
دكتور بوكاي: لقد درست اللغة العربية في باريس ولم أعش مطلقاً في أيّ بلد عربيّ. وأنا واثق من أن لديكم هنا في الولايات المتحدة الأمريكية مدرسين جيدين في اللغة العربية.
مدير الجلسة: دكتور مظهر حسيني اختصاصيّ في علم كيمياء التغذية ومؤلف كتاب حول المنهج الإسلاميّ في التغذية.
دكتور مظهر حسيني: دكتور بوكاي، بينما كنت أقوم بقراءة كتابك ومع تلك الفرصة التي منحني الله إياها بمرافقتك ولو لفترة قصيرة، توصّلت إلى خلاصة مفادها، ورجائي أن تصحّح معلوماتي إن كنت مخطئاً، أن رسالة كتابك الأساسية هي أنه ينبغي أن يتلاشى التناقض بين العلم والدين. سؤالي هو إلى أيّ درجة تشعر بأنك قد أحرزت نجاحاً في توصيل رسالتك؟
دكتور بوكاي: درجة نجاحي يسجّلها كل عام ناشر كتبي من خلال رصده أعداد الكتب التي تطبع وتباع وتترجم في كثير من بلدان العالم.
دكتور مظهر حسيني: كلا…ليس ذلك…أنا أعني السؤال عن درجة تراجع الشعور بالتنافر بين العلم والكتب المقدسة. أستطيع أن أفهم تماماً أنك قد أوضحت وجهة نظرك جيداً فيما يتعلّق بالقرآن والعلم. ولكن ماذا عن الكتب المقدسة الأخرى، هل قلّ أو زاد الشعور بذلك التناقض؟
دكتور بوكاي: أعلم أن هناك كثيراً من القرّاء ممن تأثّروا إلى أبعد الحدود بما كتبت، وربما استطعت أنت تلمّس نتائج هذا التأثّير بعد عقود عدة بالنظر إلى حداثة سنّك. ربما سأكون حينها في عداد الموتى، ولكنك قد ترى في المستقبل علماء عديدين يقبلون البحث عن توافقيات بين العلم والدين. أما أنا فقد بذلت كل ما في وسعي لكي أخبر قرّائي بما اكتشفته فيما يتعلّق بالقرآن والإنجيل والعلم. وبوسعي القول الآن إنني عجزت عن العثور على آية واحدة مناقضة للعلم في القرآن. أما بالنسبة للإنجيل فقد اتبعت في فحصه نفس المنهج الذي طبقته على القرآن، ووجدت فيه تناقضات جمّة مع العلم.
سؤال: في جزء من الآية 44 من سورة الأنبياء نقرأ ما يلي:
…أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ {21/44}
ما تفسيرك؟
دكتور بوكاي: قرأت لبعض العلماء والكتّاب ما يفيد تناقص الأرض اعتماداً على هذه الآية. ولكني أقول إن هذا غير صحيح.
سؤال: ما هو تفسيرك؟
دكتور بوكاي: لم يحدث أيّ شيء يمكنني الحديث عنه. فتصوراتهم لا علاقة لها بالعلم. فنحن نعلم تماماً أن الأرض كروية فيما عدا عند القطبين فهناك تناقص بمقدار 1 ملليمتر في المتر الواحد و20 ملليمتراً في القطر. لقد ذهب أحدهم إلى القول بأن القرآن قد أعلن ذلك. هذا غير صحيح.
سؤال: لقد فسّر البعض هذه الآية على أن الأرض في تناقص نتيجة ثورة الاتصالات التي تقرّب بين أركانها، هل هذا صحيح؟
دكتور بوكاي: كلّا! انتبه…لقد جمعت ما يكفي من آيات القرآن الدالّة على أن هذا الكتاب لا يمكن أن يكون من تأليف بشر. كما أنني لم أعثر في القرآن على آية واحدة تناقض العلم الحديث. هذا يكفي إنجازاً بالنسبة لي. وقد أشرت في كتبي إلى تكهنات بشرية قام بها آخرون تحتوي على قدر كبير من الخطورة في اعتساف الاستنتاجات.
سؤال: كيف كان رد فعل مجتمع العلماء الفرنسيّ تجاه اكتشافاتك؟
دكتور بوكاي: أخبرتكم عن ذلك آنفاً ولكنّي واثق من أن المجتمع العلميّ يعرفني حق المعرفة وأعلم أن هناك علماء كثيرين أخذوا استنتاجاتي في اعتبارهم.
سؤال: هل تعتقد أن المزيد من العلماء الفرنسيين سيزداد قرباً من القرآن بمضيّ الزمن؟
دكتور بوكاي: لا يمكنني التنبؤ بذلك ولا أملك إحصائيات بالمرة.
دكتور صقر: ولكنك يمكن أن تنقل لنا الإحساس من واقع تجاربك المباشرة في المحاضرات التي تدعى لإلقائها ليس في فرنسا فحسب ولكن في بقاع مختلفة من العالم.
دكتور بوكاي: أستطيع القول بأن أناساً كثيرين قد بدأوا التفكّر في هذا الموضوع. وبعضهم متأثر حقاً بسبب ما طرحته.
مدير الجلسة: السيد جمال مهندس مدنيّ وهو ناشط إسلاميّ أيضاً في منطقة شيكاغو.
السيد جمال: ليس لديّ سؤال ولكنني أود تقديم إجابة عن سؤالكم حول الفارق بين العام والسنة. يذكر القرآن الكريم أنه حينما فسّر النبيّ يوسف عليه السلام رؤيا ملك مصر قائلا في الآيات 47 – 48 – 49 من سورة يوسف:
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ {12/47} ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ {12/48} ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ {12/49}
ومرة أخرى في الآية 130 من سورة الأعراف:
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ {7/130}
ولقد قرأت في موضع ما تفسيراً لتلك الآيات يفيد بأن السنة تذكر في موضع العسر أما العام فيذكر في موضع اليسر، ومن هنا يقول القرآن: ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ {12/49} ولم يقل “سنة” فيها يغاث الناس وفيها يعصرون”، أترون ما أحاول قوله؟
دكتور بوكاي: أرى تماماً ما تحاول قوله…وأود القول بأن الخيال البشريّ خصب إلى أبعد الحدود!
السيد جمال: هكذا علّقت بعض التفاسير، وفي الواقع تفسير قديم منها، على هذا الاختلاف بين السنة والعام.
دكتور بوكاي: غير أنه لم يمكن لأيّ شخص حتى الآن أن يشرح لي معنى هذا الاختلاف مدعوماً بحقائق.
مدير الجلسة: دكتور شمس الدين مشتغل بالكيمياء الحيوية ويتولى في الوقت الحالي مهام نائب رئيس المركز الإسلاميّ في شيكاغو.
الدكتور شمس: إن المعلومات المتصلة بعلم وظائف الأعضاء والتناسل الإنسانيّ والشروح التي أفضت في تضمينها كتبك حول جزيئات الحمض النوويّ الريبي DNA والصبغياتChromosomes والجينات والشفرات الوراثية والتي تركت فيك إشارات القرآن إليها أثراً كبيراً، قد ثبتت صحتها منذ ما يقارب خمسين عاماً. غير أنه مع التطوّر المستمر الذي تعيشه المعرفة العلمية يوماً بعد يوم، فإن المعلومات التي نداولها اليوم قد تصبح قديمة بالية بعد مضيّ خمسين عاماً أخرى.
دكتور بوكاي: ولكنك لن تتمكّن من تغيير حمضك النوويّ الريبيّ DNA ولن تلغي وجود المعلومات الوراثية Genomeالمختزنة في مكوّنات الكائن الحيّ Organism. هذه حقائق وهذا ما يهم في الحاصل النهائيّ. إن ما يمكن أن يحدث بالطبع لظواهر وحقائق علمية كثيرة هو أن يتوافر لها تفسير أدق وأشمل بانتقالها من مرحلة إلى أخرى، ولكن الفكرة الرئيسة تظلّ كما هي. وهكذا فإن حقيقة المعلومات الوراثية المختزنة ستظلّ ثابتة دون أيّ تغيير على الإطلاق.
الدكتور شمس: المعلومات الوراثية لن تتغيّر ولكن التفاسير والمدركات الملازمة لها اليوم قد تتغيّر كلياً. فعلى سبيل المثال فإن أولى المعلومات الوراثية المختزنة لجزيء الهيموغلوبين Haemoglobin Molecule في الكائنات البشرية يرجع تاريخه إلى 50.000 عام من منظور التطوّر. إن جزيئاً واحداً في كائن بشريّ قد استغرق تطوّره نحو 50.000 عام. كما أن تنظيم الجينات الذي تطرّقت إليه يتميّز بجزيئات زائدة من الحمض النوويّ الريبيّ DNA الخليويّ متعلّقة بجزيئات أخرى تدور في فلكها. ولهذا تفسير راسخ يمكن إرجاع تاريخه إلى مائة مليون عام.
دكتور بوكاي: بالطبع. ولكن هل يغيّر هذا شيئاً من استنتاجاتي؟ ربما قام أحد بعد مضيّ عشرة أعوام بتحسين معرفتنا بهذا الموضوع. ولكن خلاصة بحثي ستظلّ كما هي؛ فالجينوم – المعلومات الوراثية المختزنة سوف تظلّ على حالها، إن ما يعنيني الفكرة العامة. لا يمكنني شرح كل النقاط لأن هذا سيستغرق زمناً طويلاً ولكن ربما ظهر شخص في غضون سنوات يطرح أفكاراً جديدة.
دكتور شمس: كيف يمكننا تحديد عمر الكائن الإنسانيّ على الأرض؟
دكتور بوكاي: اسمح لي بأن أعطيك جواباً. لنفترض أن الإنسان الأول قد ظهر على الأرض منذ أربعة ملايين عام أو مليونين من الأعوام كما يتناقش حولها علماء الإحاثة اليوم، لا يهم، فالفكرة العامة هي ما يهم. إذن لنقل إن الإنسان الأول الموهوب بالذكاء قد ظهر على الأرض ما بين مليونين إلى أربعة ملايين عام. المشكلة هي أن علماء الإحاثة لا يمكنهم التوصّل إلى تاريخ محدد لظهور الإنسان على الأرض.
دكتور شمس: ماذا يخبرنا القرآن عن ذلك؟ وأيّ اتجاه يجب أن نسلك للقيام بأبحاث معمّقة حول الكون ومخلوقات الله؟
دكتور بوكاي: لا يمكنني إخبارك شيئاً عن ذلك ولكن ربما أخبرتنا في المستقبل اكتشافات جديدة. ربما أمكن العثور على هيكل عظميّ بشريّ يرجع تاريخ الإنسان الأول إلى خمسة ملايين عام بدلاً من أربعة. إنني لا أعلّق أهمية كبيرة على هذه الأخبار.
دكتور شمس: ما هو شعورك حيال التحويرات في جينات البنية البشرية بينما نحاول نحن تغيير أفكارنا حول إنتاج الجينات صناعياً؟ ماذا يقول القرآن عن ذلك؟
دكتور بوكاي: لم يذكر القرآن شيئاً عن ذلك بالمرة. بل إنه لم يتوافر علماء في ذلك الزمان أبدعت خيالاتهم شيئاً عن ذلك. من بوسعه أن يخبرك شيئاً عن هذا الموضوع؟ الحقيقة هي أن هناك مخزناً للمعلومات الوراثية – الجينية يلزم له أن يخضع لتغيرات وإلّا كان حدوث التطوّر أمراً مستحيلاً. لنتذكر أن ما يهم حقاً في هذا الصدد هو الفكرة العامة. وأعذرني إن كنت لا أستطيع التبحّر هنا لأنني لست مختصاً في علم الجينات. إنني أتناول حقائق تبدو على درجة عالية من الأهمية من منظور الفكرة العامة. هذا هو كل ما هنالك. ولنتذكّر أن هناك خطراً محدقاً حين نستخدم العلم اعتسافاً في تفسير نصّ مقدس بغرض فرض معلومات لم تصل إلى درجة الحقائق العلمية الثابتة. إن هذا خطر عظيم. لقد قرأت لكتّاب يزعمون أن القرآن يشرح نظرية النسبية. قرأت القرآن كثيراً ولم أعثر على شيء من هذا.
دكتور شمس: ولهذا السبب أسألكم بتواضع حتى ترشدونا إلى حيث يجب أن نبحث عن اكتشافات علمية في ضوء القرآن الكريم. أم هل نكتفي بالقول بأن هذا الاكتشاف أو ذاك لا يشكل فارقاً لدينا؟ هل نقول إن الله قد خلق الخلق وإن كل ما نكتشفه ما هو إلّا نتيجة لبحث متعمّق، أو ربما جمعنا بين المدخلين وقمنا بتحليل القرآن الكريم ككتاب علميّ؟
دكتور بوكاي: كلا…كلا! فالقرآن ليس كتاباً علمياً على الإطلاق! كل ما هنالك هو أن ثمة مفاهيم عامة متعلّقة ببعض الظواهر العلمية. لا شيء أكثر من ذلك.
مدير الجلسة: دكتور فخري اختصاصي تربويّ.
دكتور فخري: ذكرت في تقديم الجلسة أن الدافع وراء اختيارك القيام بأبحاث في القرآن الكريم كان ما لمسته في القرآن من منطقية وتحفيز للتفكير. وبالطبع فإن الله قد ميّز الإنسان بالعقل. سؤالي هو…إلى أي مدى تركت فيك صفتك كعالم قام بدراسات تحليلية معمّقة للقرآن الكريم أثراً في منهج الإيمان لديك؟
دكتور بوكاي: إذا أطلقت العنان للتعبير عن مشاعري الشخصية فلتكن واثقاً من أن تأثير كتاباتي بين المسيحيين سيهوي إلى درجة الصفر. لهذا اخترت أن أظلّ منشغلاً بدراساتي واخترت عدم الغوص في المسائل الدينية والعقائدية حتى بالنسبة لي شخصياً. آمل أن تتفهّم موقفي (3).
دعني أفترض معك هنا أنني ولدت لأسرة مسلمة وأن اسمي بالميلاد كان محمد بوكاي عوضاً عن موريس بوكاي. كن واثقاً من أنني كنت سأكون فخوراً بذلك إلى أبعد الحدود. ولكن هل يمكنك أن تتخيّل أنه كان يمكنني إنجاز ما أنجزت؟ بكل تأكيد لا. لسبب واحد هو أنني قد أصبت بصدمة حين أدركت أن معتقداتي الدينية كانت في ضلال. إنه لأمر فظيع حقاً حين تكون على مشارف الخمسين من عمرك وتجد نفسك هامساً لنفسك قائلاً: “لعلي مخطئ تماماً في استنتاجاتي المتعلّقة بالكتب المقدسة”. ولذا أردت على نحو قاطع أن أوسّع مساحة علمي بالقرآن مجرداً من أي غرض محدد…أيّ غرض. ولو ولدت لأسرة مسلمة لكان القرآن مقبولاً تماماً عندي ككلام الله المنزّل. وربما ضعف عندي الحافز للقيام بدارسات كالتي قمت بها، لأن الإجابات عن تساؤلاتي ستكون جاهزة عندي منذ البداية.
دكتور شمس: أوافقك الرأي تماماً.
دكتور بوكاي: أود أن أعطيكم مثالاً. خلال شهر أكتوبر من العام الماضي (1986) قامت أسقفية قرطبة في إسبانيا بتنظيم لقاء ضمّ جمعاً من القساوسة والأساقفة والراهبات بمشاركة مسلمين من قرطبة. ودعتني أسقفية قرطبة لإلقاء محاضرة عن “المساهمة الإسلاميّة في الثقافة العلمية”. هل كان ممكناً بخيالكم أن يقوم أسقف قرطبة بدعوتي لو كنت متحدثاً عن مسائل دينية عقائدية؟ بالقطع لا! كانت تلك هي المرة الأولى التي يتم فيها تناول موضوع كهذا في الأسقفية، وقد ترأس الأسقف بنفسه جلسة اللقاء. وحققت المحاضرة نجاحاً طيباً هناك. ولأن زوجتي كانت مدعوة أيضاً فقد تحدّثت مع الراهبات اللاتي نقلن إليها مدى تأثّرهن بموضوع المحاضرة. ولكي أنهي القصة فقد دعيت لإلقاء المحاضرة نفسها في مسجد باريس الكبير في يناير من عامنا هذا (1987). هذا هو موقفي ولعله يفسّر لكم الكثير عن حياتي. والآن يكفيني القول بأن هذا هو الطريق الصحيح، وأشكر الله إذ هداني إليه لأنه منهج عظيم الأهمية أثبت فعاليته في خدمة الحقيقة والإسلام.
مدير الجلسة: السيد أفضل فردوسي من مواطني شيكاغو ويعمل حالياً على إدخال إصلاحات في السجون مستغلاً هذه الفرصة لتعريف المسجونين بالإسلام.
أفضل فردوسي: يدور سؤالي حول المشابهات في القرآن، ثمة مثالان على ذلك؛ الأول جزء من الآية 12 من سورة الطلاق:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ…
والثاني في جزء من الآية 10 من سورة الصافّات:
…شِهَابٌ ثَاقِبٌ {37/10}
سأكون ممّتنا لو تمكنتم من تقديم تفسير علميّ لهذه المشابهات.
دكتور بوكاي: كلمة “سبع” هنا تحمل مدلول النقاء، وقد تكرّر ذكر “سبع” في أكثر من موضع في القرآن (4). لقد أخبرني معلمي أن كلمة “سبع” هي إشارة إلى النقاء وليست بحال دلالة على العدد الذي يتوسّط ستة وثمانية.
أفضل فردوسي: وماذا عن الشهاب الثاقب؟
دكتور بوكاي: كلمة “ثاقب”، كما أتذكر، تعني شيئا يخترق ظلام الليل.
دكتور صقر: معنى كلمة “ثاقب” يقترب من معنى انطلاق الصاروخ اليوم. أعتقد أن الآية تشير إلى النيازك والشهب التي تندفع بسرعة مخترقة مدار الأرض.
دكتور بوكاي: هناك معنى “الاختراق” في كلمة “ثاقب”.
أفضل فردوسي: ما تفسير كلمة “جنّ” التي وردت في القرآن؟
دكتور بوكاي: الجنّ؟ سأكون ممّتنا للغاية لو أخبرتموني أنتم عن معنى الجن. وحين كنت أترجم الآية القرآنية المعروفة المتعلّقة بغزو الفضاء في سورة الرحمن:
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ {55/33}
ترجمتها إلى assembly of jins and men لأنني لا أعلم معنى كلمة “جنّ”.
دكتور صقر: أعتقد أنها مسألة إيمان لا ينبغي اللجوء إلى العلم لطلب تفسير لها.
دكتور بوكاي: لا يمكن للعلم تفسير كل شيء. وجّه إلي ما شئت من تساؤلات ولكني لن أجيب سوى عن القليل. غير أني أعتقد أن تفسيراتي، المنشورة والمسموعة والمرئية، تكفي معيناً لأيّ إنسان يتصف بالموضوعية والصدق للتوصّل إلى حقيقة أن القرآن لا يمكن أن يكون قول بشر وأنه بالضرورة وحي إلهيّ منزّل.
مدير الجلسة: دكتور أنصاري ناظر مدرسة كلارا محمد الإسلامية في شيكاغو.
دكتور أنصاري: يقول القرآن الكريم إنكم لو أردتم خدمة الإنسانية فلابد أن تؤمنوا بتعاليمه. إن الله يثني على ويرضى عن أولئك الذين يعلنون إيمانهم. لقد قلت إن أسقف قرطبة قد وجّه إليك الدعوة لأنه لا يعرف من أنت حقاً (يقصد حقيقة منهجه الإيمانيّ). ليس هذا هو المنهج القرآنيّ. كيف تدافع عن موقفك وأنت لا تعلن نفسك مسلماً في الوقت الذي تقرّ فيه بأن القرآن هو كلام الله؟
دكتور بوكاي: موقفي في غاية البساطة هو أن أقول الحقيقة وأن أخبر العالم عما تمكنت من اكتشافه في الإنجيل والقرآن. وأعتقد أن كثيراً من المسيحيين قد تأثّروا اليوم بما فهموه من كتاباتي عن القرآن. أعرف عدداً من القساوسة يقرّون اليوم بأن القرآن وحي منزّل من عند الله. فإذا ظلّوا بعد ذلك قساوسة فتلك مشكلتهم. إنني لا أسعي إلى ممارسة أيّ نفوذ عليهم ولكنني معنيّ بإبراز الحقائق أمام الجميع. ولا أروم شيئا أكثر من هذا. يمكنك بالطبع أن تستخلص ما تشاء ولكن بالنسبة لي من عظيم الأهمية أن أجعل الناس يتعرّفون ماهية الإنجيل وما أتى به القرآن.
وأنا أقوم بهذه المهمة متحرّراً من أية أفكار أو تصوّرات مسبقة من أيّ نوع على الإطلاق. الاستقصاء العلميّ وحده هو منهجي ولا شيء غير ذلك. هذه سبيلي وسأتابع طريقي على ضوئها.
دكتور صقر: دعوني أوضح نقطة هنا. يرد في جزء من الآية 28 من سورة غافر:
وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ…
إذن كان هناك مؤمن في بلاط فرعون موسى عليه السلام لم يعلن إسلامه مختاراً أن يخفي إيمانه سعياً للتأثير في آخرين من قوم فرعون. وفي الواقع فقد حقق نجاحاً ظاهراً في مسعاه إلى أن حان وقت أعلن فيه ومن تأثّروا به إسلامهم في وجه طغيان فرعون.
مدير الجلسة: أدركنا الوقت هلّا تفضلت دكتور بوكاي بتقديم ملاحظاتك الختامية.
دكتور بوكاي: ليس لديّ ما أختم به، بل ربما عليكم القيام بذلك. ولكن إذا أردتم خلاصة واحدة فهي في متناول يدي…لقد أعلنتها من قبل وأكرّرها هنا “عليكم تعلّم اللغة العربية إن أردتم دراسة القرآن دراسة متعمّقة”. تعلّموا العربية فهذا هو نتاج تجربتي.
دكتور صقر: هل هي دعوة للمسلمين وغير المسلمين سواء؟
دكتور بوكاي: بكل تأكيد. فالقرآن قد تنزّل للعالمين جميعاً ولم يقتصر على الذين يقولون إنّا مسلمون. أنا مؤمن بهذا.
عند هذا التعليق الأخير انتهت الجلسة ودعا مديرها الدكتور أحمد صقر لاختتامها بالدعاء، فرفع الجميع أكفّهم بالدعاء والتأمين وفي مقدمتهم الدكتور موريس بوكاي (5).