في عام 1987 تلقى الدكتور موريس بوكاي دعوة من معهد الإعلام والتعليم الإسلاميّ في شيكاغو لإلقاء محاضرتين في مراكز إسلامية في المدينة. واستندت المحاضرتان إلى كتابين لبوكاي هما: “الإنجيل والقرآن والعلم” (1976) و”أصل الإنسان” (1981).
وفيما يلي نصّ المحاضرة الثانية التي تنشر باللغة العربية للمرة الأولى.
ترجمة وإعداد: الفاروق عبد العزيز

أصل الإنسان: مخلوق أم متطوّر؟

في البدء لم يكن في متناول تساؤلات الإنسان عن أصل سلالته سوى تأملّات وموروثات وخرافات تناقلت عبر عصور تاهت فيها المادة المصدرية في غياهب الزمن. وفي المرحلة التالية، وقبل أن يرتقي العلم ليلقي بعض الضوء على هذه المسألة، استحضرت مختلف المنظومات الفلسفية عناصر للتأمل حول خلق الإنسان. علينا هنا أن نؤكّد على التأثير الذي خلّفته تعاليم الكتب السماوية لثلاث ديانات توحيدية على العقل البشريّ. فخلال قرون عدة، استمدّ الإنسان معلوماته عن أصله من هذه الكتب. في بادئ الأمر تنزّل الوحي الإلهيّ من السماء بشكل شفاهيّ ثم تلا ذلك الشكل المدوّن. ولا يملك المرء أن يحدّد التاريخ الذي أصبح الإنسان فيه واعياً بالوحي الأول. إننا نجهل الكيفية التي أوحي بها إلى الإنسان ولكننا نفترض أن نوحاً عليه السلام هو أول من استدعى انتباه قومه إلى هذه المسألة. الإنجيل يشير إلى ذلك كما نستدلّ من القرآن على أن فكرة دعوة الإنسان للمرة الأولى في تاريخه للقيام بالتأمّل والتفكّر في أصله بدأها نوح عليه السلام. إن أقدم نصّ من الكتب المقدسة متوافر لدينا اليوم يحدّد أصل الإنسان باعتباره نتاج خلق إلهيّ لا مراء فيه يتمثّل في النسخ اليهوية Yehvist والكهنوتية Sacerdotal للإنجيل. ومن المعتقد أن النسخة اليهوية للإنجيل، وفق ما ذهب إليه مؤرخو الأناجيل، قد تمت كتابتها ما بين القرنين التاسع والعاشر قبل ميلاد المسيح عليه السلام، وبالتالي هي أقدم النسخ على الإطلاق. هذا في حين أن النسخة الكهنوتية للإنجيل كتبها كاهن في القرن السادس قبل الميلاد، وتحتوي على قصص مطوّلة عن الخلق تحتلّ حالياً المقاطع الافتتاحية في جميع النسخ الإنجيلية. وكان من الطبيعيّ أن تتبنّى المسيحية الأفكار المطروحة في تلك القصص عن أصل الإنسان وأن تكرّر التعاليم الإنجيلية ذاتها المتعلّقة بأصله دون إضافة أية تفاصيل تزيد عن تلك الواردة في كتب العهد القديم Old Testament. وعلى الرغم من ذلك فهناك بعض الاستثناءات خاصة في إنجيل لوقا والذي يبدأ تعداد الأجيال الإنسانية بداية من آدم عليه السلام ونهاية بالمسيح عليه السلام ويحدّدها في 76 جيلا من البشر. وهذه معلومات لا تلقى قبولاً في عصرنا.

لقد أثرى الوحي القرآنيّ، إلى حد كبير، معرفة الإنسان بذاته. غير أن العقول في العالم الغربيّ لا تزال إلى اليوم تتغذّى بالروايات الإنجيلية في موضوع أصل الإنسان. وفي حين أن القرآن، في العالم الإسلاميّ، يطرح الفكرة العامة حول الخلق فإنه يضيف معلومات لم توجد قط في الأناجيل. سأعود إلى شرح هذه النقطة فيما بعد.

بدأت المرحلة التالية خلال القرن الثامن عشر من العصر المسيحي حين سجّل العلم تقدماً مبدئياً، وحالما تمكن الإنسان من امتلاك درجة كافية من المعرفة العلمية تمكنه من التوصل إلى استنتاجات مقبولة، شرع العلماء في التبحّر في تأملات في اتجاهات متنوّعة. وفي أثناء تلك الحقبة قام معظم العلماء، تبعا لمناهجهم العقلانية، بتطبيق مكتشفاتهم الأوليّة على الإنسان في حين أنها لم تكن على أيّ قدر من الأهمية حتى بالنسبة إلى المملكة الحيوانية. لقد قاموا بذلك تأسيساً على نظرية التماثل الخالص Pure Analogy. كان هذا منهجاً ثبت خطؤه في التوصّل إلى ما استنتجوه، الأمر الذي يفسّر ما سيتبع ذلك من غرام بالأيديولوجيات. وهكذا لم يداخل الفلاسفة أيّ تردد في تأليف نظريات مؤسّسة على أسس واهية. هذه ممارسة ما زلنا نلاحظها في عصرنا.

شهد القرن التاسع عشر في العالم الغربيّ أولى المجادلات بين العلم والنصوص الدينية خاصة الأناجيل وبالأخصّ ما يرد فيها عن ثبات الأنواع عبر العصور والأحقاب وهي تصوّرات يتّضح تأليفها في كتب العهد القديم. كان لاماخ Lamakh (الذي أعلن عن نظريته في التحوّل في بدايات القرن التاسع عشر) أول متحدٍ للنصوص الإنجيلية حول ثبات الأنواع. غير أن داروين Darwin كان هو الذي وجّه أقسى الضربات في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى النصوص الإنجيلية بكتابه “في أصل الأنواع” On the Origin of Species الذي صدر في عام 1859. لقد افترض داروين أن الطبيعة قادرة بصورة تلقائية على اختلاق كائنات حية كتلك التي يفضّلها مربّو الأبقار والجياد لمباشرة التكاثر. غير أن داروين قد غفل، خلال تطبيقاته، عن حقيقة أنه ليس بمقدور هؤلاء المربين توليد حيوانات من أنواع مختلفة عن أنواع الآباء. ولكن داروين أصاب حين قال إنه لاحظ اختلافات داخل النوع الواحد. غير أنه لم يعثر مطلقاً على حالة واحدة رصد فيها تغييراً في نوع معين أدى إلى تكوين نوع جديد. ولكي يتم شرح التطوّر في المملكة الحيوانية تلزمنا معرفة المحفّزات الباعثة على تحوّل نوع واحد إلى نوع آخر. لقد اعترف داروين نفسه في رسالة له بأنه قد أخفق في شرح عملية التطوّر. والرسالة محفوظة في المتحف البريطاني في لندن. في هذه الرسالة كتب داروين ما نصّه: “إنني أؤمن بالانتخاب الطبيعيّ Natural Selection ليس بسبب مقدرتي على أن أثبت، في أيّ حالة مفردة، أنه قد نجح في تحويل نوع إلى آخر، ولكن بسبب أن الانتخاب الطبيعيّ يقوم كما يبدو لي، بالتجميع والشرح الوافي لحزمة من الحقائق المتعلّقة بعلم الأجنّة التصنيفيّ Classification Embryology وعلم تركيب الخلايا Morphology والأعضاء غير مكتملة النموّ Rudimentary Organs والتتابع الجيولوجي Geological Succession وتوزيع الأنواع Distribution”.

هكذا اعترف داروين بأن نظريته لا يمكنها أن تشرح عملية التطوّر. وهنا تكمن كل المشكلات المتعلّقة بنظرية داروين.

في عام 1982 احتفل العلماء بمضيّ قرن على وفاة داروين بإطلاق حزمة من التصريحات التبريرية التي جاءت للأسف مخيّبة للآمال بالنظر إلى أهمية إنجازاته في تاريخ العلوم الطبيعية. وفي القسم الخاص بإجابات العلم والكتب المقدسة في كتابي “أصل الإنسان” What is the Origin of Man? عرضت للعيوب التي اعترت نظرية داروين ولأوجه سوء استخدامها بواسطة محلّلي أعماله المعاصرين. فاليوم يتضح جلياً وبشكل كامل عامل التطوّر في المملكة الحيوانية؛ فقد توافر لدينا الدليل المفصّل في عدد لا يحصى من الحالات على حدوث تحول، عبر مدد زمنية متعاقبة، من الزواحف إلى الثدييات على سبيل المثال. بيد أن داروين لم يثبت أبداً أن الإنسان قد انحدر من القرد. بل إنه لم يشر قط إلى ذلك في كتاباته. إن بعض أتباعه يرددون ذلك دون أدنى دليل حيث إنه لم يثبت على الإطلاق وجود حلقة وراثية بين الإنسان وأنواع حيوانية. سنعود إلى هذه النقطة لاحقاً.

لقد بذل مؤيدو النظريات الحديثة كالداروينية الجديدة جهداً هائلاً لكي يجمعوا بين معطيات مستبعدة عفا عليها الزمن في نسق واحد مع مكتشفات أصلية توفّرها معلومات معاصرة. ولكنهم لم ينجحوا بأي شكل في تجميع الحقائق المتعلّقة بالمشكلات التي يواجهونها. ووفقاً لمنهجهم فقد توصّلوا إلى نتائج مستقاة من أوجه معينة من معطيات تم جمعها معملياً. في تلك المعامل تجري دراسة الكائنات الدقيقةMicroorganisms التي لا ترى إلّا بالمجهر، دون اعتبار للحقائق المحدّدة المرتبطة بأحداث ماضية وهي حقائق يوفّرها لنا علم الإحاثة، من خلال دراسة الأحافير المتحجّرة، ثم علوم أخرى متصلة كعلوم الحيوان والأجنّة والتشريح المقارن والجينات والأحياء الخلوية والجزيئية وغيرها. وفي الواقع أننا نلاحظ ميلاد نظريات يدعمها باحثون قاموا بشرحها اعتماداً على العلم بصورة مطلقة، ولكن هذه النظريات لا تظهر سوى توافق مع معتقداتهم الخاصة. ونحن في فرنسا نتمتع بموقع ممتاز في هذا الميدان لكي نلاحظ إلى أي مدى استحق على الإطلاق علماء في الأحياء المجهرية Microbiology من أمثال العالمين الشهيرين جاك مونرو Jack Monroe وفرانسوا جاكوب Francois Jacob، نيل جائزة نوبل في الطب؟ وإلى أي مدى بلغ تحرّرهم من الحقائق في سبيل إشباع رغباتهم المادية Materialistic.

كيف أتفق مع عالم يدرك جيداً روعة التنظيم الخّلاب الذي يحكم وظائف الخلايا ولكنه يطلق التطوّر في المملكة الحيوانية؟ بل كيف أتفق مع فرانسوا جاكوب الذي يرى التطوّر نتيجة لترتيبات مؤقتة في كتابه “لعبة الاحتمالات” The Game of Possibilities؟ أو كيف أتفق مع جاك مونرو الذي يروّج لنظرية في المصادفة والضرورة كتفسير جاهز لأي موضوع. إن تركيب الجسم الإنسانيّ أكثر تعقيداً بمراحل مما يستطيع أيّ مبرمج للحواسيب تخيله. لا أستطيع هنا أن أخوض في تفاصيل وزوايا قمت بتغطيتها في كتابي – “أصل الإنسان” ولكن على الرغم من ذلك أجد لزاماً عليّ أن أسرد بعض المعطيات الخاصة بالحياة ووظائف الخلايا من منظور عام. ولعله من المفيد هنا أن أذكّركم ببعض الأفكار التي ربما لا تكونون واعين بها وأن أرسم خطاً متوازياً بينها. من العبث القول بأن الحياة ربما تكون قد حدثت فوق كوكب الأرض بطريق المصادفة. والقول بأن الحياة قد وفدت إلى كوكبنا من الفضاء محض افتراض لا يقوم على دليل علميّ. ومن المتيقن أن تجارب كتلك التي أجراها ميلر Miller في عام 1955 والتي أظهرت نتائجها أن قدراً بالغ الضآلة من المركبات الكيميائية المحتوية على نسبة تكثيف عالية كالأحماض الأمينية في البروتين الخلويّ يمكن إنتاجها في المعامل. وقد تتمكّن كتلة غازية مكوّنة من الهيدروجين والأمونيا والميثان وبخار الماء مدفوعة بشحنات كهربية عالية الكثافة من إنتاج عينات من تلك المركبات الكيميائية. ولكن ما يخرج من هذا كله ليس هو الحياة. إن منطق تجربة ميلر يجانبه الصواب لأن هناك فجوة عميقة بين جمع مركبات كيميائية في شكل مرتب كيميائياً وإنتاج هذا التركيب المذهل الذي نطلق عليه اسم الخلية أو حتى المكوّنات العضوية الأولية Rudimentary Organs. إن كل خلية، إن جاز التعبير، تمتلك حاسوبها الخاص بها، والأوامر الصادرة إلى الخلية للقيام بوظائف لا حصر لها يصدرها جزء متناه في الضآلة Molecule يقوم بتشغيل كل البرامج بما فيها عملية التوالد. ففي نوى الخلية هناك جزيئات متناهية في الصغر بروتينية/جينية Proteomic يطلق عليها DNA أو الحمض النوويّ الريبيّ والذي يعتبر العنصر الأساسيّ في المنظومة كلها. ويتميز هذا الحمض بتركيب معقد مذهل يقوم بإنتاج العناصر الكيميائية الأولى Catalysts المحفّزة لإطلاق تفاعلات كيميائية معينة. وتعتمد خصوصية تلك العناصر على المركّبات الكيمائية التي تعلق بهذا المكوّن الجوهريّ. وبهذه الكيفية يتم إرسال الأوامر المشفّرة عبر ناقلات كيمائية. بعد فك الشفرات يتم إنتاج إنزيمات معينة تؤدي إلى تركيب البروتينات الضرورية للحياة. وهذه الإنزيمات هي أقسام الحمض النوويّ الريبيّ DNA التي تعلق بها المركّبات الكيميائية. .تحتوي كل خلية من الخلايا على عدد معقول منها يقوم بإصدار الأوامر بعدد لا يحصى من الأنشطة. وبهذه الكيفية يتم تكوين مجموعة الكروموسومات – الصبغيات (1) الحاملة للشفرة الوراثية – الجينوم Genome. بل إن الكائن الحي Living Organism الذي لا يحتوي على نواة Nucleus كالبكتيريا يتمتع أيضاً بمنظومة التحكم تلك نفسها. وفي داخل الخلايا هناك شريط من الحامض النوويّ الريبيّ DNA مطويّ حولها على مدى فترة زمنية طويلة جداً. ومن خلاله يتم إنتاج آلاف الأنواع من البروتينات. ويتم إنتاج حوالي 3000 بروتين لنوع من البكتريا يسمى Escherichia Coli وفي داخلها يصل طول شريط الحامض النوويّ الريبيّ DNA إلى ملليمتر واحد أي ما يعادل 5000 ضعف الحجم الأقصى الذي يمكن أن تصل إليه البكتريا. وفي الكائنات البشرية فإن حجم كل خلية يقاس بمقياس آلاف الملليمترات. وقد يتجاوز مجموع أطوال شريط الحامض النوويّ الريبيّ DNA داخل جسم الإنسان بعدة أضعاف طول المسافة الممتدة بين الأرض والشمس. وقد أمكن اليوم التوصّل إلى تقدير أدق لأطوال أشرطة الحامض النوويّ الريبيّ DNA داخل جسم الإنسان بما يزيد على 15 ضعف المسافة الفاصلة بين الأرض والشمس. وبعبارة أخرى فإن هذا التقدير قد وضع اعتماداً على قياسات فلكية! وإذا كان هذا ممكن التصوّر فما لا يمكن تصوّره هو أن المخزون الدقيق للجينات في الجسم البشريّ يمكن أن يسحب! فلتنفيذ خطة السحب هذه يلزم تسخير جهود آلاف من المهندسين والأطباء والباحثين لثلاثة آلاف عام لإنجاح الخطة! ومع افتراض أن كل مركب كيميائيّ أساسيّ، وفي الحالة التي بين أيدينا كل نواة Nucleonic (مكوّنات الذرة)، يمكن الإشارة إليه بترميزه كحرف في كتب تحتوي على معلومات مجمّعة عن كائن بشريّ واحد، سيتطلب الأمر توفير مائتي كتاب من الحجم المتوسط يضمّ كل منها 500 صفحة! ولنتخيّل أطوال رفوف الكتب ولنتفكّر في أن مثل هذه الكمية الخيالية من المعلومات مخزّنة في كل نواة من كل خلية من خلايانا التي يقاس حجم الواحدة منها بمقياس واحد على الألف من الملليمتر! إن حجمها متناه في الصغر حتى أنه لو تم تجميع الشفرات الوراثية – الجينية لنحو خمسة بلايين كائن بشريّ فوق كوكب الأرض لشكّلت جداراً واحداً! أمّا الكتلة الكليّة لهذا الجدار فقد لا تتجاوز حجم ما يعادل سنتيمتر مكعب واحد!

ترى هل يستطيع العقل البشريّ إنجاز مثل هذا التصغيرMiniaturization في البرمجة الحاسوبية؟

إن السمة الأساسية المميّزة للكائن الحي هي التنظيم الدقيق والمذهل حيث تقوم الجينات بإصدار الأوامر بتشغيل الوظائف المخصّصة لكل خلية في الوقت الذي يستطيع فيه الإنسان باختياره تشغيل الوظائف المركزية لأعضاء الجسم.

أمّا في المملكة الحيوانية فإن معظم تلك الوظائف تباشر عملها على نحو تلقائيّ – آليّ انطلاقا من برمجة خلاياها بالغة التعقيد. وعلى سبيل المثال فإن الخلايا السرية (2) عند الطيور تختزن كمّاً هائلاً من المعلومات تستدعيه آلياً لإنجاز هجراتها المعقدة أبلغ تعقيد. وتشتمل المعلومات على البرمجة التلقائية لسلوكياتها. ونحن نعلم اليوم مدى ضآلة الحجم المتناهي في الصغر لجهاز الطيور العصبيّ المركزيّ حيث يتم تسجيل البرمجة وحفظها. هذا مثال يكشف لنا عن الإمكانات التي تزخر بها المادة الحية المحكومة بتنظيم عظيم.

أين إذن يمكننا وضع أصل الحياة في التاريخ الأحيائيّ Biological History لكوكب الأرض؟ بقدر ما تناهى إليه علمنا فإن الفرضية الأكثر احتمالية تكمن في الأصل المائيّ للحياة حيث وجدت البكتريا والطحالب منذ بليون عام، بينما يصل عمر كوكبنا إلى نحو أربعة بلايين ونصف بليون سنة. ويمكن إرجاع أعمار كائنات دقيقة أخرى عثر عليها متحجّرة في الصخور إلى ثلاثة بلايين عام. ومن المحتمل جداً أن تكون أشكال متعددة الخلايا للحياة قد تطوّرت من أشكال أحادية الخلايا. ولعل الإسفنج كان أكثر الكائنات الحية البدائية متعددة الخلايا. وربما انبثقت من هذه الأشكال البدائية أشكال أخرى كانت تمتلك كمية هائلة من الخلايا والأعضاء الحيوية، ومن المحتمل أنها اكتسبت وظائف ذات طبيعة عصبية وعضلية. ومن المحتمل أن تكون تلك الكائنات قد تشكّلت منذ أقل من بليون عام. أمّا اللافقاريات فقد ظهرت على الأرجح منذ حوالي خمسمائة أو ستمائة مليون عام، في حين أن الفقاريات ظهرت بعد ذلك منذ حوالي أربعمائة وخمسين مليون عام مثل بعض أنواع الأسماك التي تابعت التطوّر منذ ذلك الحين. ومنذ حوالي ثلاثمائة وخمسين مليون عام ظهرت أولى الفقاريات الأرضية أو البرمائيات والزواحف وتلتها الثدييات منذ حوالي مائة وثمانين مليون عام، وأخيرا الطيور التي ظهرت منذ مائة وخمسة وثلاثين مليون عام. ويوضّح هذا الاستعراض المختصر عظم مقدار التطوّر في المملكة الحيوانية في سياق مستمر من التطوّر في أشكال مطردة في التعقيد وفقا لنظام بالغ الكمال. وهو نظام يجعل من المستحيل تماماً اعتبار عامل المصادفة في هذا كله. إن الشفرة الوراثية التي تتحكّم في كل خلية من خلايانا تشغل وظيفة المدير المنظّم لكافة التحوّلات التي تحدث للكائن الحي عبر برمجة مثالية منظّمة لا تسمح بأدنى قدر من الفوضى الملازمة حتماً للمصادفة.

وتظهر خلال عملية التطوّر سمات جديدة للكائن المتطوّر. وهذا أمر لا يمكن الفكاك منه حين يتم تطبيقه على عنصر أو أكثر من المكوّنات الوراثية – الجينات. إن عملية التطوّر مسئولة عن إيجاد أشكال أكثر تعقيداً في المملكتين الحيوانية والنباتية. وهكذا حتى إذا لم يكن المرء على اطلّاع إلّا على أقلّ القليل في عالم الكائنات الحية، فسيتضح له أن كل شيء يخضع لبرمجة كاملة على مستوى الشفرة الوراثية وهي التي تقوم بالتحكّم التام في كافة الوظائف بالغة التعقيد المتصلة بالتحويرات التشريحية في الكائن الحي.

والآن…كيف يمكن أن تتلاءم فكرة وجود خالق للبرمجة مع ما يعرضه لنا العلم؟ بل كيف يتسنى للعالم الموضوعيّ المعاصر أن يتغاضى عن استحالة تفسير هذا الترتيب المذهل الحاكم للظواهر الحياتية؟ لأنه إذا اعتمد هذا العالم رسمياً فكرة مصادفة الخلق، مؤمناً بالتصوّرات المسبقة الشائعة كنظرية داروين في الانتخاب الطبيعيّ، فسيجد نفسه أمام نظريات لا يمكنها أن تفسّر بحال عملية التطوّر كما نعرفها اليوم؟ إن ما يميّز الكائن الحي حقاً هي المعلومات المسجّلة في الشفرة الجينية التي تحتوي على المواصفات الخاصة بشكل كل نوع وبنيته ووظائفه. فالتطوّر، كما نعرفه اليوم، عملية تعتمد على الإضافات المتتابعة على فترات زمنية للبيانات المعلوماتية للشفرة الجينية. ويمكن للعلماء مناقشة عدد غير متناه من الأمور حول الأسباب التي تشكّل العامل الحاسم Determining Factor في تحديد النوع، غير أنهم لا يستطيعون تجنّب حقيقة البرمجة لأنها واضحة تماماً. إن بعض منظّري اليوم، الذين يدّعون بأن لديهم تفسيرات لكل شيء، لا يجدون ما يقولونه عندما أوجه إليهم سؤالاً عن منبع المعلومات الجينية. ولم يقدم لاماخ Lamakh أو داروين شرحاً لتكوين الأقسام النوعية الكبيرة الأساسية في المملكتين الحيوانية والنباتية.

إن الأحداث التي رافقت عملية التطوّر قد وقعت على مراحل زمنية بالغة الطول. ففي البدء ظهرت العلامات الأولى المكوّنة لملامح محددة. ثم أعقبتها فترة توثيق Authentication للظواهر التي صاحبت الفترة الأولى. وكان ذلك حين أبطأت الحركة الكونية ووصل خلق أنماط جديدة إلى مرحلة يبدو في الوقت الراهن أنها المرحلة الأخيرة. وفي حالة التطوّر البشريّ، فقد وصل إلى حالة ثبات في عصور أحدث من تلك. أما الأنماط التنظيمية Organisational Types الرئيسة فقد وضعت في مراحل مبكرة تماماً. ومنذ تلك اللحظة اكتسبت كافة الأنماط التنظيمية شكلاً معيناً قام بتوجيهها في اتجاه معين. ولم يحدث قط أن انبثق نوع تنظيميّ من تلك الأشكال المميّزة.

كتب بول جاراسي Paul Garaci في كتاب له يقول: “ينبثق التطوّر الخلّاق Creative Evolution من الأشكال النموذجية الأصلية Prototype Forms. فبدونها لم يكن ممكناً ظهور أي نوع من الكائنات الحية Organism”. وعلى المستوى الخلويّ يثير التطوّر مجموعة من الأسئلة التي لا يمكن العثور على إجابة عنها في مراجع علم الأحياء الدقيقة أو الجينات Genetic Microbiology. فمن غير الممكن أن تحدث ظواهر جديدة في الخلية دون وساطة جزيء الحامض النوويّ الريبيّ DNA المسئول من خلال الحمض النوويّ الريبوزي RNA عن إنتاج البروتين الذي يشكّل الأصل في التركيب الكيميائيّ. ولذا ينبغي أن نلاحظ أن حدوث أيّ تنويع ذي أهمية في مكوّنات الكائن الحي يتعين على جزيء الحامض النوويّ الريبيّ اكتساب جينة – مورّثة جديدة مضيفاً إياها إلى مستودع المعلومات المخزّنة كيميائياً. وهكذا فإن التعديل في الجينة لا يتم إلّا على جينة موجودة بالفعل. وقد أكد البروفسور جاراسي، الذي قام بتدريس التطوّر في المملكة الحيوانية لثلاثين عاماً في جامعة باريس، أن الكائنات الأولية تماماً لا يمكن أن تكون بشكل أصيل وملموس قد احتوت داخلها كافة العائلات الجينية Genus للحيوانات. ويسري الأمر نفسه على النباتات. ومن منظور جاراسي فإن وجود العائلات الجينية شرط أساسيّ تماما لحدوث عملية التطوّر.

والآن…ماذا حدث للكائن البشريّ؟ يتعين علينا هنا استعراض نتائج الأبحاث، دون النظريات، بغرض إجراء مقارنة بينها وبين مقاطع واردة في الإنجيل والقرآن. ووفقاً لما توصّلت إليه جهود علماء الإحاثة من حقائق مستقرّة قائمة على دراسة الأحافير المتحجّرة والعظام والأسنان وبقايا كائنات بشريّة تم التأكيد على أنها عاشت في أفريقيا منذ نحو أربعة ملايين عام، فإن هؤلاء البشر كانوا أناساً أذكياء، لأنهم لم يتمكنوا من استخدام الأدوات كبعض الحيوانات فحسب بل كانوا قادرين أيضاً على صنعها. ولم يكتسب أيّ حيوان القدرة على الاختراع. وقد أطلق العلماء على تلك المجتمعات البشرية البدائية اسم أسترالوبيثِكس Australopithecus وهي تسمية لا أعتقد بصحتها حيث إنها ترتبط بنوع من القردة تختلف عنها بكل وضوح، على الرغم من أن تركيبها الشكليّ – المورفولوجيّ قد يتشابه مع تركيب الإنسان في أوجه عدة منها وضع الوقوف على الرغم من أنها أضأل حجماً وجمجمتها تستوعب مساحة قدرها 500 سنتيمتر مكعب. ووفقاً لما نعرفه اليوم، فإن هؤلاء البشر يمثلون أقدم الأجيال الإنسانية. غير أنه لا ينبغي أن نستبعد احتمالية أن تدفع اكتشافات مستقبلية بتاريخ ظهور الإنسان على الأرض إلى أبعد من ذلك التاريخ. غير أننا لا نعرف تحديداً متى انقرضت تلك الموجة من الكائنات البشريّة. ربما قبل مجيئنا بحوالي ستة ملايين عام. لا نعلم. حملت الموجة الثانية الإنسان المنتصب Homo Erectus الذي عثر عليه في أفريقيا وآسيا وماليزيا وأوروبا. كان حجم تلك السلالة مقارباً لأحجامنا في حين كان حجم الجمجمة لديها أكبر منا…أي حوالي 900 سنتيمتر مكعب في المتوسط. لقد اكتشف الإنسان المنتصب النار. وربما عاش ذلك الجيل ما بين نصف مليون إلى مائة وخمسين ألف عام مضت. أما الموجة الثالثة فكانت إنسان نياندرتال Neanderthal الذي عثر على بقاياه في أفريقيا والشرق الأوسط وجزيرة جاوة في إندونيسيا، وكان حجم دماغه أكبر من حجم دماغ الإنسان الحاليّ. ويبدو أن هذه الموجة قد عاشت فترة أقصر امتدت ما بين مائة وخمسين ألف عام إلى أربعين ألف عام خلت. وأخيراً حلّت الموجة الرابعة وهي الإنسان العاقل Homo Sapiens جد الإنسان الحاليّ والذي يبدو أنه قد تطوّر قليلاً حتى زمننا الراهن.

المؤكد أننا لم نعثر على الإطلاق على أيّ حلقة تربط أيا من تلك الموجات البشرية بأيّ نسب حيوانيّ. كما أننا لم نعثر حتى على وسيط بين الحيوانات الرئيسة وذلك النسب الذي ذكرت. وقد تم التأكيد على هذه النقطة بالتحديد في المؤتمر الدوليّ لعلماء الإحائة (فرنسا 1982). ومن ثم فإن أيّ شخص موضوعيّ النظرة لابد أن يعترف بوقوع مثل تلك الأحداث على فترات زمنية. هناك تحويرات في الشكل الإنسانيّ ولكنها لا تدلّ بحال على أننا انحدرنا من القردة. وقد احتفظ الإنجيل بالفكرة الصحيحة تماماً المتعلّقة بالخلق والتي يؤكدها النص. وعلى الرغم من ذلك فإن أكثر روايتين إسهاباً في الإنجيل وصفتا خلق الأنواع المختلفة من الحيوانات، كما أوردت في كتابي “الإنجيل والقرآن والعلم” The Bible, the Qur’an and Science بالثبات عبر مختلف العصور. وإضافة إلى ذلك فإن البيانات والمعلومات الواردة في الإنجيل تؤدي إلى تقييم تاريخ خلق العالم أو ظهور الإنسان الأول على سطح الأرض بسبعة وخمسين إلى ثمانية وخمسين قرناً. وفي عام 1987 حدد التقويم العبريّ عمر الإنسان على الأرض؛ 5747 عاماً. لا يمكن علمياً قبول أيّ من هذه المعطيات. ولذا ربما ألتمس بعض العذر للإنجيل حيث إن مؤلّفيه، الذين يعتقد المؤمنون به أنهم موحى إليهم، قد ارتكبوا أخطاء باستلهامهم خرافات عصرهم وأساطيره. ولم يحدث أن تمكّن أحد من إبراز تلك الأخطاء إلّا في عصرنا الحديث. ومن ثم فلا عجب أن يعلن مجمع الفاتيكان الثاني في عام 1965 بالحرف الواحد “أن أسفار العهد القديم تحتوي على معلومات ناقصة وباطلة”.

تجري مناقشة مفهوم الخلق في العادة لدى أولئك الذين يؤكّدون على وجود تشابهات بين الإنسان والقردة وأسلاف مزعومين من منظور تشريحي يجمع نسقا من الوظائف المشتركة بين الإنسان والقردة، مؤكدين بذلك انحدار البشر من القردة. غير أنهم يتناسون أن تلك التشابهات قد فرضت على الإنسان. إذ كان الإنسان مضطراً للعيش في المحيط الحيوانيّ النباتيّ نفسه بسبب احتياجه، كحاجة الحيوان، إلى الأكسجين للتنفس. كان عليه كذلك التغّذي مما تنبت الأرض ومما يمكن أن تصل إليه يداه من لحم الحيوان كي يسد حاجته إلى الغذاء مثلما يفعل الحيوان أيضاً. وكان من الطبيعيّ أن يؤدي هذا السلوك الحياتيّ إلى تشابهات في الوظائف العضوية والحيوية وجملة من السمات المميّزة الأخرى. فبدونها لم يكن للإنسان أن يتمكّن من الحياة على كوكب الأرض.

وإذا وضعنا في الاعتبار ما توصلت إليه المعطيات العلمية المؤكّدة في عصرنا، فلن نجد اختلافا بين العلم والدين حول خلق الإنسان. وهو مفهوم يتشارك فيه الإسلام والمسيحية واليهودية. غير أن الإسلام، فيما يتعلّق بخلق الإنسان، قد أضاف معلومات نطالعها في القرآن. وقد تطرّقت في كتابي “أصل الإنسان” إلى تلك الإضافات التي تركت تأثيراً هائلاً من وجهة النظر العلمية، حتى أنني قمت بإلقاء محاضرة حول هذا الموضوع في عام 1976 في أكاديمية الطب الوطنية الفرنسية. وقد قمت الآن بتطوير هذه النقاط في شكل كتب. وعند تناولي لموضوع أصل الإنسان لم يسعني أن أنسى كيف زودنا القرآن، في سياق عام، بمعلومات عن بداية الخلق. سأستشهد هنا بالآية 30 من سورة الأنبياء:

أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حي أَفَلَا يُؤْمِنُونَ {21/30}

من منّا لا يعرف اليوم أن أصل الحياة مائيّ؟ وعلاوة على ذلك اعتقد أنني قد لاحظت في القرآن إشارة إلى أن البنية الإنسانية Morphology قد تم تشكيلها في تتابع عبر مراحل وفقاً لما أثبته العلم الحديث. ولم يتح لنا فهم تلك الآيات تماماً إلّا في عصرنا. فالمفسّرون القدامى ومترجمو القرآن المعاصرون لم يتمكّنوا من فهم المعاني الصحيحة للإشارات العلمية في القرآن التي لم يكن ممكناً سوى لعالم طبيعيّ تفسيرها. لن أؤكّد هنا على المعنى الروحانيّ الشائع المرتبط بخلق الإنسان من الأرض، ولكن القرآن يخبرنا عن المرحلة الثانية بعد الخلق حينما صوّر الله الإنسان في هيئة خاصة به. نقرأ في الآية 11 من سورة الأعراف:

وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ {7/11}
لقد تمّت “تسوية” الإنسان في شكل متناغم على نحو ما يرد به فعل “سوّى” من تفصيل في سورة الحج وفي الآيتين 7 – 8 من سورة الانفطار:
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ {82/7} فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ {82/8}
وسأتابع الاستشهاد بذكر آيات من القرآن تشرح نفسها كالآية 4 من سورة التين:

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ {95/4}

تعني كلمة “تقويم” العربية “تخطيطاً بصورة منظّمة”. والآية الواردة في سورة نوح تفيد بأن الله قد خلقنا أطواراً، ولذا ذهبت في كتابي إلى أن كلمة “أطوار”، التي ترد مرة واحدة في القرآن، من الجائز ربطها بتحوّلات مرّ بها الجنس البشريّ عبر تاريخه.

وفي الختام، وعندما يضع المرء في اعتباره ما وفّرته لنا المعطيات الإحاثية فيما يتعلّق بالموجات المتتابعة للجنس البشريّ، لا يستطيع المرء أن يقاوم إغراء المقارنة بين تلك الاكتشافات العلمية مع ما ورد في الآية 28 من سورة الإنسان:

نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا {76/28}

ويستمر التوافق الواضح بين آيات القرآن والمعطيات العلمية المستقرّة في علم الإحاثة حين نقرأ في الآية 133 من سورة النساء:

إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا {4/133}

تؤكد هذه الآيات تماماً على اختفاء بعض المجتمعات البشريّة واستبدال مجتمعات أخرى بها على مر الأزمان وفق مشيئة الله. يا له من توافق أمثل مع علوم أخرى كثيرة. ودعونا نتذكر أن هذه الحقائق كانت مجهولة تماماً في العلم البشريّ عند نزول القرآن. تلك دروس ذات أهمية بالغة يتعيّن على العلماء استقراءها من هذه الحقائق ليتوصّلوا إلى معرفة مؤكدة عن أصل الإنسان.

هل هناك أيّ استنتاج آخر لما طرحناه؟