والآن…
ألم يئن لهذه النوعية من الباحثين (!؟) المسلمين (؟) أن ينتهوا عن هذا المنهج؟
إن استخدام منهج المرجعية الأمينة والاستشهاد بالمصادر الموثوق بها قد دفع بالباحثين الأوائل، وفي مقدمتهم الفتى والشاب ثم الرجل محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله إلى تحرّي الصدق في الرواية ونسبتها إلى مصدرها عن فلان عن فلان عن فلان، حتى وإن تطلّب التدقيق تحمّل مشّاق السفر وأخطاره. وكان علماؤنا القدامى حريصين على أن يذيّلوا مقالاتهم دوماً بعبارة كاشفة: هذا والله أعلم! ولم يكن هذا مجرد إقرار بكمال علم الله سبحانه مقارنة بعلم البشر كما قد يتبادر إلى أذهان البعض، بل كان هذا الإقرار سعياً نحو الحصول على نوع من الحماية الذكية لأبحاثهم من خطأ قد يرتكبه الكاتب في معلومة قد يثبت فيما بعد أنها غير محققة، أو غير دقيقة، أو أن مصدرها مشكوك في صحته، أو غير صحيحة كلية.
غير أن ذلك كان عصراً مضى. أو هكذا يبدو لي.
بيد أنه يبدو أن ثمة نوراً يسطع في نهاية هذا المقال!
فما تزال هناك نقاط ضوء مشعة بتوقير الكلمة والتجمّل بالأمانة؛ هي نقاط تفرض الاحترام والتقدير على كل من تصل إليه. فمن بين خمس ترجمات إلى العربية في مكتبتي لكتاب بوكاي الأول “الإنجيل والقرآن والعلم ” استمتعت، وأنا أعنيها حقاً، بترجمة الأستاذ علي الجوهري عن الإنجليزية والأكثر من ذلك بتعليقاته – التي تشكّل بذاتها كتيباً قيّماً – والتي تكشف عن علم فياض ورأي متدبّر مبنيّ على حجج عقلانية في انسجام كامل مع ما يدعونا إليه ثُمنُ كلمات القرآن الكريم من تفكّر وتدبّر ونظر وتعقّل (11). هذا في الوقت الذي ابتهجت فيه بمطالعة ترجمة الشيخ حسن خالد مفتي الجمهورية اللبنانية للكتاب عن الفرنسية وتعليقاته المنيرة. وكانت الطبعة الأولى من الكتاب قد صدرت بترجمة الشيخ في عام 1978، وهو تاريخ دالّ على سرعة استجابة الشيخ لحاجة قرّاء العربية لتعرّف المحتوى المهم لرسالة بوكاي (12).
أعدت الاطلاع على الترجمتين قبل أن أشرع في كتابة كتابي “موريس والقرآن” لغرض واحد هو أن أعزّز إيماني بفضيلة إسلامية أصيلة أوصانا بها رسولنا صلّى الله عليه وسلم قائلًا: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه”…
هل هناك احتفال بقيمة وخلق “الإتقان” أعظم من هذا!
…………………………………………………………………………………………………………..
(11) الناشر مكتبة القرآن، القاهرة، (1999).
(12) الناشر المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة، بيروت، (1990).
…………………………………………….
انتهى!