ما زلنا نجول في رحاب أشهر آفات العقل (!) المسلم المتعلقة بما أسميه متلازمة حسن النية Goodwill Syndrome! حيث يؤلّف أو ينقل أخ أو أخت مسلمة شبه معلومة ثم يبادران بنشرها بحماس المؤمن المفعم بحسن النية لخدمة دين الله “الذي لا يحتاج”، وفق تعبير السينمائي الفرنسي السابق Serge Bard الشيخ عبد الله سراج بار، “إلى جهود أمثالنا من الحمقى لنشر دينه”. جاء تصريحه في ثنايا تعليقه أثناء تسجيل حديث معه في خريف 2011 – تعليقه على موجة التأليف والتخريف والإسهال في نشر أشباه المعلومات الموصوفة بتاريخية أو علمية استنادًا إلى “إبداع” كتّاب ومشايخ من أهل التأليف حسن النية! وهي للأسف ظاهرة نعيشها من ظواهر الدعوة اليوم.
هذه الرسالة مثلًا!
وصلتني الرسالة الهاتفية التالية في 15 من يناير من عام 2015، ثم أطلت برأسها مرة أخرى في الموعد ذاته بعد عامين (!) عن طريق التطبيق الشهير WhatsApp، وهو ما يعنى انتشارها الفوري لمئات وربما آلاف الهواتف نتيجة مشاركات المتلقين ذوي النوايا الحسنة! هي رسالة متعلّقة برواية عن بوكاي سطرّها بحماس ظاهر أخ مؤمن ذو نوايا حسنة أيضاً (أو أخت مؤمنة من يدري).
أورد الرسالة هنا كما هي دون تصحيح:
……………………………………………………………………………………………………
من روائع الإعجاز التاريخي في القرآن الكريم…
“هامان”
معلومة جميلة جداَ

هذا الاسم ورد ذكره في القرآن الكريم كوزير فرعون ..بينما لم نجد أي إشارة عنه في الإنجيل أو التوراة.. هذا ما أثار فضول العالم الفرنسي المسلم وعملاق التشريح (موريس بوكاي)..فقام بالبحث في سر هذا الاسم ذهب إلى أحد المختصين في تاريخ مصر القديمة وعرض عليه الاسم وطلب منه ترجمة معنى هذا الاسم باللغة الهيروغليفية.. أتى له الخبير بكتاب “قاموس أسماء الأشخاص في الإمبراطورية الجديدة”.. وفتحا الكتاب ..وكانت المفاجأة أكبر من أي تصور…كان معنى اسم هامان رئيس عمّال مقالع الحجر”…!!
قال (بوكاي) للخبير: لو قلت لك أنى قد وجدت مخطوطة منذ 1400 سنة.. كتب فيها أن هامان كان وزير فرعون ورئيسا للمعماريين والبنائين.. ماذا تقول في ذلك..؟؟
انتفض الخبير من مكانه وصرخ قائلاً : مستحيل.. هذا الاسم لم يرد ذكره إلا على الأحجار الأثرية لمصر القديمة وبالخط الهيروغليفي.. أحدها موجود في متحف “هوف” في “فِيَنا” عاصمة النمسا.. وهذه المعلومة لا يذكرها إلّا شخص قام بفك رموز اللغة الهيروغليفية.. وعرف معنى كلمة هامان..؟؟ وهذا لم يتم إلا عام 1822…أين هذه المخطوطة..؟؟
حينئذ فتح ( بوكاي) نسخة مترجمة من القرآن وقال له اقرأ ..فهذا هو معجزة محمد… القرآن الكريم
“وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِين ”
صدق الله العظيم
…………………………………………………………………………………………………..
لدي النصّ النادر المسجل صوتاً وصورة لرواية بوكاي عن هذا الموضوع. وقد أوردت في كتابي “موريس والقرآن: القصة الكاملة للدكتور موريس بوكاي” ترجمة لما رواه ضمن جلسته غير الرسمية في شيكاغو في عام 1987.

ولكن تعليقي على الرسالة مصدره أسلوب العرض المشابه لأساليب المقالات السابقة من انعدام للدقة العلمية اللازمة لرواية القصة بعرض مقنع.
خذ مثلاً كوزير فرعون. وقد راجعت المواضع الست التي يذكر فيها اسم هامان في القرآن الكريم فلم أجد اسم هامان ولو مرة واحدة معرّفاً كوزير لفرعون! فمن أين أتى الأخ بهذا الافتراء الجائر؟ ويصل الجهل مداه حين يكتب أن بوكاي قال للخبير: “أنى قد وجدت مخطوطة منذ 1400 سنة..” (يقصد القرآن) “كتب فيها أن هامان كان وزير فرعون ورئيسا للمعماريين والبنائين..” كُتب فيها أن هامان كان…..!!!!! كًتب في القرآن؟!؟! لو تفكّر الأخ المسكين قليلاً لوجد نفسه من حيث لا يدري، ولا يريد، يفتري على كتاب الله! فإذا كان القرآن يعرّف منصب هامان وصفته الوظيفية، كما ذهب الأخ، فلماذا يقصد بوكاي عالماً في الهيروغليفية ليسأله عن معنى اسم هامان!!!؟؟؟
وبالطبع لم أتوقع من كاتب الرسالة وناشرها عناء البحث الميسر على الشبكة العنكبوتية (إن لم تتوافر لديه كتب) عمن حقق فتحاً في فك طلاسم اللغة الهيروغليفية: الشاب جان – فرانسوا شامبليون، ولا متى نشر كتابه التاريخي “أبجدية الكتابة الهيروغليفية” Precis du Systeme Hieroglyphique (نُشر في عام 1824). وعوضاً عن ذلك يكتفي الكاتب بذكر 1822 والسلام. وفي الرسالة أيضًا ترداد لأنفاس مؤلفي المقالات السابقة ممن يعيشون دراما التفكير بالتمني العامرة بالخيال ولغة الكليشهات وأساليب التعبير الانفعالي الميلودرامي الغابرة منذ مطلع القرن العشرين من نوع “بوكاي المسلم” (أين دليلك؟)…”عملاق التشريح”(!!!!)…” انتفض وصرخ…أين هذه المخطوطة؟؟؟” حينئذ فتح بوكاي نسخة وقال له “اقرأ”!!! ..فهذا هو معجزة…”!!!.
يا للهول! هذه أعراض التأليف الميلودرامي المنتشرة…مؤكد أن الأخ كان معهما!

………………………………………………………………………………………………………..
من المؤسف القول بأنني إزاء هذه الأقوال سيئة التأليف والتعبير لا أجد سوى أسلوب السخرية للتعليق عليها. وأشعر بالرثاء في الوقت نفسه لحال مسلمين لا يدركون أن ثُمن1/8 كلمات القرآن تنصّ على تفعيل أعظم ما فضّل به الخالق العظيم بني آدم على كثير ممن خلق تفضيلاً: العقل والعلم…دع عنك أمانة النقل التي توجب الصدق مع الله ومع خلقه، وأن النوايا الحسنة لا تشفع أبداً لأصحابها أمام أي ميزان.
إنها حالة واحدة من حالات العقل المسلم المعاصر المثيرة للأسى في أكثر من ميدان وطريق.

يتبع..