ها أنا ذا أعود بعد انقطاع إلى المدونة التي تستلهم في هذا المقال الأول عبارة مضيئة لعالم الفيزياء النظرية الشهير ستيفن هوكنج يقول فيها: “إن العدو الأكبر للعلم ليس هو الجهل، ولكنه وهم المعرفة”. لو راجعنا بسرعة مقالات “وهم المعرفة” التي كتبها أو نقلها أو ألّفها هؤلاء الذين استشهد بهم في موضوع الدكتور موريس بوكاي، ستكون قراءة هذه الحلقة المسهبة من المدونة بالغة الإمتاع والمؤانسة!
…………………………………………………………………………………………………………..
لست أدري حقاً إن كان من الضروري إضاعة الوقت في التعقيب على تلك المقالات ومشتقاتها، فجميعها “ثقوب سوداء” تسقط فيها إلى غير رجعة قيم البحث ونزاهة المقصد وروح العلم. بل إنها تسحب العقل أيضاً نحو تلك الهاوية الكونية.
إنني أستطيع أن أقطع بأن كتّابها قد تربّوا على قراءة تشبه الإدمان لما يشبه ما كنت أقرأه في صباي من ترجمات روايات الجيب القديمة لقصص اللص الظريف أرسين لوبين، ومغامرات طرزان، وشيرلوك هولمز، كما عرّبها بأسلوبه المميز في بيروت الخمسينيات الأستاذ عمر عبد العزيز أمين…فالأسلوب مشابه تماماً بما يحتويه من تصوّرات خيالية وأوصاف منقولة من رواياته! أو ربما من روايات شعبية حديثة لا أعلم عنها شيئاً.
غير أنني أجد نفسي هنا مجبراً على الاعتراف بمقدار الخيال الواسع والثقة “الإيمانية” المطلقة في رواية هذه القصة التي ألّفها – في نسختها الأصلية – كاتب محدود الموهبة شحيح العلم ولكنه يتميز بجرأة الجاهل التي تدفع بمقاله صوب الكتابة العبثية.
كنت أتمنى لو حاول كاتبو تلك المقالات وناقلوها وناسخوها قراءتها ولو لمرة واحدة على الأقل قبل نشرها حتى يعثروا بسهولة على المحرّك الأول لحالتي الضحك والحزن التي تنتاب أي قارئ حصيف.
لنأخذ على عجل بعض التعبيرات في المقالات الثلاثة كمثال على عمق التفكير بالتمني لدى الكاتب من جهة، والمتلقي الواثق بحسن نية الكاتب وصدق معلوماته من جهة أخرى. والتفكير بالتمني Wishful Thinking حالة من حالات التوهّم المرضي Delusional State of Mind التي تصيب من تستولي عليه حالة مركب الشعور بالنقص Inferiority Complex فتجعله يؤلّف أوضاعاً ويبدع في التخيل لما يتصوّر أنه يحب أن يراه.
صدقوني إنها حالة لا تسعد المتلقين العوام وحدهم بتلك الإحالات الوهمية، ولكني رأيت الخاصة يباركونها ويصدقونها دون أدنى تردد. وتلك مأساة لا تنعكس على تأليفات وأوهام متعلّقة ببوكاي وحسب ولكنها تنسحب على سلوكيات فكرية وعملية في المجتمعات الإسلامية.
ثمة تفسير إضافي للجوء إلى حالة التأليف المنتشرة في هذه المقالات وغيرها ونسبتها إلى أكثر من أب خاصة تلك المتعلّقة بإعلان غير مسلم لإسلامه. إنها ذلك الشعور المسيطر لدى المتلقي المسلم بأنه ودينه موضع اضطهاد Paranoia غربيّ متصل، اضطهاد تاريخيّ ومعاصر على مستويات عدة. وفي مقال يبالغ في “قدر” رجل كموريس بوكاي، ثم آخر يزايد عليه، وثالث، وهكذا، فإن إعلان الرجل إسلامه على الملأ بعد ارتجاج بدنه وزلزلة مشاعره يتيح حتماً إمكانية للتعويض عن هذا الشعور بالاضطهاد، واستبداله بشعور بالتسامي والفخر: فلديّ ما يزلزل الآخرين. ومن المؤكد أن هناك غربيين أعلنوا إسلامهم على منابر المؤتمرات، منهم مثلاً ما رواه لي الدكتور زغلول النجّار في لقائي المسجّل معه عن إعلان بروفيسور الهندسة الكهربائية والإلكترونية البريطاني آرثر (عبد الله) أليسون عن إسلامه أمام الجميع في ختام مؤتمر عن الإعجاز الطبي في القرآن أقامته الجمعية الطبية المصرية في عام 1985 وكان ضمن الحضور. بل إن (محمداً) مارماديوك بكثال مترجم القرآن البريطانيّ قد أعلن – بعد أن ألقى بحثه في مؤتمر عن “الإسلام والتقدم” عقد في لندن في 29 من نوفمبر من عام 1917 – أعلن إسلامه على الملأ. ومنهم من أسلم بشكل أقل درامية. ومنهم من كتم إيمانه…أو هكذا نظن في حالة…موريس بوكاي!


الأمر المدهش الآخر هو أن المقالات المنسوخة المنشورة على الشبكة الدولية للمعلومات تعرض صوراً لمومياء رمسيس الثاني في الوقت الذي يزعمون فيه أنه فرعون الخروج – فرعون النبي موسى عليه السلام، وينسبون ذلك إلى بوكاي “الذي قفز وصاح: أنا مسلم”! والواقع المؤسف أن هؤلاء الكتّاب الجوف لم يقرؤوا حتى كتاب بوكاي “الإنجيل والقرآن والعلم” المترجم إلى العربية والمنشور في عدة بلدان عربية في عشرات الطبعات منذ عام 1978. فالرجل يوضّح أكثر من مرة في كتابه أن رمسيس الثاني هو فرعون الاضطهاد، وأن ابنه وخليفته ميرنبتاح هو فرعون الخروج. لا توجد صورة واحدة في أي موقع لميرنبتاح! فهم لا يعرفونه، ويعرضون صورة لمومياء في وضعية هندية لاتينية غير معرّفة لا لهم ولا للقارئ المسكين!
لقد أصابتني موجة من الضحك الهستيري قبل أن يحلّ بي حزن عميق إزاء هذه التعبيرات “المؤلّفة” والتي يتداولها المتداولون وكأنهم جميعاً شهود عيان على ما حدث لبوكاي في الظاهر والباطن أيضاً!…وليسامحني القارئ إذ إنني لا أستطيع حقاً أن أكبح جماح الرغبة في تعليقات سريعة (بين قوسين) أوردها بالجملة على بعض “المعلومات!” والتعبيرات المستفزة حقاً ولتمييزها وضعت تحتها خطًا!
اصطف الرئيس الفرنسي ميتران منحنياً…(لم يستقبل ميتران أي مومياء في حياته لا منحنياً ولا مضطجعاً)…
وكان أن أرادت فرنسا في أواخر الثمانينات من القرن العشرين (لنقل أواخر الثمانينيات…مثلاً في عام 1989؟) أن تستجلب مومياء فرعون موسى… (أي فرعون بالتحديد؟)……
وهناك مكث عشر سنوات ليس لديه شغل يشغله سوى دراسة مدى تطابق الحقائق العلمية والمكتشفة حديثا مع القرآن الكريم…(لنضف وفقاً لحسابات هؤلاء المؤلفين عشر سنوات إلى عام 1989 ليصل بنا الزمن إلى عام 1999…)…
كان ثمرة هذه السنوات التي قضاها الفرنسي موريس بوكاي أن خرج بتأليف كتاب عن القرآن…(وها نحن ذا قد وصلنا إلى عام 1999 وبوكاي على وشك نشر كتابه عن القرآن…يؤسفني إبلاغ هؤلاء أنه في عام 1999 كانت روح بوكاي قد فاضت إلى بارئها قبل عام كامل!)…
لقد كان عنوان الكتاب القرآن والتوراة والإنجيل والعلم…(عنوان الكتاب هو “الإنجيل والقرآن والعلم” وقد نشر الكتاب قبل وفاة بوكاي باثنين وعشرين عاماً…أي في عام 1976! والأعجب أن تاريخ النشر مدون على الكتاب لو كان قد اطلع عليه أحد هؤلاء المؤلفين العظام!)…
وفي ساعة متأخرة من الليل.. ظهرت النتائج النهائية…(غموض بوليسي مشوّق…في ساعة متأخرة من الليل…استغرق فحص وعلاج مومياء رمسيس الثاني في متحف الإنسان في باريس من 26 من سبتمبر من عام 1976 وحتى 10 من مايو من عام 1977 – تلك سبعة أشهر وأربعة عشر يوماً كاملة…أية نتائج وأي ليل، والأهم أن بوكاي لم “يعالج” أي مومياوات في حياته!)…
أنه…أي رمسيس الثاني… كان يمسك لجام فرسه أو السيف بيده اليمنى.. ودرعه باليد اليسرى…(خيال شعريّ من الدرجة الثالثة؟… يشير المؤلف هنا إلى مومياء رمسيس الثاني الذي هو فرعون النبي موسى عليه السلام وفقاً لاكتشافه المذهل!!…لقد تم تحنيطه ودفنه بوضعية الفرعون في حياته جالساً بذراعين متقاطعين على صدره في تصاويره الرسمية حاملاً صولجان الملك. وكما نرى المومياء في المتحف المصري اليوم فإن الذراع اليمنى ما تزال مضمومة إلى صدره كما وضعها المحنطون قبل 3228 عاماً. أما الذراع اليسرى فنراها مرفوعة قليلاً عن صدره اليوم نتيجة لتصلّب لم يمكن معالجته، دون إيذاء المومياء، أثناء علاجها في باريس وفقاً لما ذكره بوكاي نفسه في صفحة 180 في الفصل الخامس المعنون “مومياء رمسيس الثاني في باريس” من كتابه “مومياوات فرعونية: بحوث طبية حديثة” طبعة نيويورك Mummies of the Pharaohs: Modern Medical Investigations (1990)… آسف أيها المؤلف! لا لجام ولا سيف ولا درع ولكنه التأليف الخائب!)
وكأنه إلي الآن يصرخ على أهل مصر أنا ربكم الأعلى!… (؟؟؟؟؟)…
وكان يحلم بسبق صحفي كبير…(هل هناك إهانة أبلغ من هذه توجه لعالم مثل بوكاي؟ سبق صحفي!! ربما كان هذا حلمًا يداعب مؤلّف المقال الكابوسي!!…لست أدري لم أتذكر هنا قصة أنثى الدب التي أرادت أن تهش الذبابة عن وجه صاحبها؟؟)…
حتى همس أحدهم في أذنه قائلا…(هل كان الكاتب هو الهامس؟)…
فازداد البروفيسور ذهولاً…(هل رآه من أحد؟)…
جلس موريس بوكاي ليلته محدقا بجثمان الفرعون…(أكيد كان الكاتب معه في تلك الليلة…ياله من إبداع خياليّ!… تعجبني “محدقًا”)…
يسترجع في ذهنه… (؟؟؟؟؟)…
وأخذ بوكاي يقول في نفسه…(أطّلع المؤلف على الغيب؟)…
لم يستطع موريس أن ينام ليلتها…(ماذا؟!؟)…
وطلب أن يأتوا له بالتوراة…(لم أملك نفسي من الضحك هنا…بوكاي طلب ممن؟ “أن يأتوا له” في هذه الصيغة ليس لها سوى تفسير واحد؛ ربما من حاشية القصر! صاح منادياً: ائتوني بالتوراة! بإيقاع بعض ما يكتبه مؤلفو الأفلام والمسلسلات التاريخية: ائتوني بالأقداح والأفراح!)…
وبقي موريس بوكاي حائراً…(؟؟؟؟؟)…
موريس لم يهنأ له قرار ولم يهدأ له بال…(زيادة في؟؟؟؟؟؟)…
فقام أحد المسلمين وفتح له المصحف وقرأ له قوله تعالى: “فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون”…(من الذي فتح المصحف؟ وبأية لغة قرأ له الآية؟ وإذا كانت بالعربية كيف فهمها الفرنسي بوكاي الذي لم يعرف العربية وقتذاك وفقاً للمؤلف؟)…
لقد كان وقع الآية القرآنية عليه شديداً.. ورجت له نفسه رجة، ثم سكنت وأسلمت لبارئها، وجعلته يقف أمام الحضور ويصيح بأعلى صوته: لقد دخلت الإسلام وآمنت بهذا القرآن أنه من عند الله!…(هذه خاتمة ميلو درامية بليغة حقاً تليق بتفكير المؤلّف بالأمنيات بما يعكس حالة التوهّم والنزعة الميلودرامية في التمثيل والإخراج Theatricality التي انقضى زمانها منذ ما يربو عن مائة عام من مسرح جورج أبيض ويوسف وهبي (من يا للهول…ثكلتك أمك…ويحك!…رجت…يصيح بأعلى صوته…).
لقد كان وقع الآية عليه شديداً، ورجت له نفسه، وتحركت سواكنه الإيمانية وفطرته الأساسية، وأعلن بأعلى صوته: لقد دخلت إلي الإسلام وآمنت بهذا القرآن…(وهذا كاتب آخر استفاض قليلاً في وصف “السواكن”!)…
وعوضاً عن مثيرات الإعجاب التقليدية لاجتذاب الجنس الآخر اختار المؤلف الثالث (المثقف!) كتاب بوكاي ليكون واسطة خير وهداية في إثارة إعجاب الفتاة الأميركية التي يحبها…(لعمري إن هذا إنجاز عظيم!)…
كتب يقول:
وصرت تجده (أي الكتاب) بيد أي شاب مصري أو مغربي أو خليجي في أمريكا، فهو يستخدمه ليؤثر في الفتاة التي يريد أن يرتبط بها …! فهو خير كتاب ينتزعها من النصرانية واليهودية إلى وحدانية الإسلام وكماله …
…(ما شاء الله)…

يتبع..