Book of Signs

أقدم فيما يلي نص الفيلم الوثائقيّ؛ “كتاب الإشارات” (1986) من إنتاج شركة سيد كاتشك لإنتاج الأفلام Kechik Film Production Syed الماليزية بالتعاون مع شركة ناس المحدودة Naas Ltd. الإنجليزية. وأقوم في سياق هذا الكتاب بنشر نص السيناريو والتعليق لأول مرة باللغة العربية، مع حفظ حقوق المشاركين في الكتابة وشركتيّ الإنتاج اللتين أخفقت محاولاتي المتكررة في الاتصال بهما للحصول على إذن بالنشر. إذ يبدو أن الشركتين لم يعد لهما نشاط.
غير أنه بعد أن نشر مساعدي عدنان باسرا على صفحتي على فيسبوك في يونيه 2015 خبراً متعلّقاً بأحدث إنتاج وثائقي لي، وهو الجزء الأخير من ثلاثية بوكاي بعنوان “قوة الإعجاز”، اتصل بنا الدكتور شاهروم دومMD. Dom Shahrom على الصفحة نفسها! وبعد طلب الإذن منه لنشر التعليق وافق بسرور مباركاً تقديره لجهودنا المتواصلة في التعريف بميراث موريس بوكاي.
وكان الدكتور شاهروم قد شارك الدكتور موريس بوكاي كتابة نص سيناريو الفيلم. وجدير بالذكر أن بوكاي يظهر بنفسه في الفيلم معلّقاً في مداخلة قصيرة.
كتب التعليق كريستوفر مولد Christopher Mould وبيتر نيل Peter Neal استنادا إلى كتابيّ الدكتور موريس بوكاي “الإنجيل والقرآن والعلم” و”أصل الإنسان”.
والفيلم من إخراج شاهروم دوم، وإنتاج تونكو عبدالرحمن بوترا الحاج Tunko Abdul Rahman Putra Al – Haj.
ترجمة وإعداد: الفاروق عبد العزيز

سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {41/53} – سورة فصّلت، الآية 53.

ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ {41/11} – سورة فصّلت، الآية 11.

أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ {21/30} – سورة الأنبياء، الآية 30.

الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {1/2} – سورة الفاتحة، الآية 2.

المعلّق:
شاهدنا للتو لقطات تشرح نظرية “الانفجار العظيم” وهي نظرية في خلق الكون تلقى قبولاً واسعاً في أوساط العلماء في عصرنا الحالي. أما الكلمات التي سمعتموها فهي آيات من القرآن كتاب الإسلام المقدس الذي يرجع تاريخ تنزيله وتدوينه إلى ما يربو على 1400 عام خلت.
القرآن هو قلب الإسلام النابض وروحه. ويؤمن المسلمون بأن القرآن هو حكمة الله التي أوحيت إلى نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم المرسل إلى البشر كافة. ويبدو من غير المعقول البحث عن معطيات علمية مؤسسة على حقائق في كتاب هداية اجتماعية وروحية تنزّل على نبيّ. ومع ذلك فإن القرآن يحتوي على كثير من الآيات التي تحوي أوصافاً للعالم الطبيعي الفيزيقي تتشابه إلى حد مذهل مع مثيلاتها في العلم الحديث. وتغطي تلك الآيات مجالاً واسعاً من الموضوعات لتبدأ من مسائل كونية شاسعة وتنتهي بأدق شئون الحياة على الأرض.

…وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ {21/30} – سورة الأنبياء 21، لآية 30.

يختلف المنهج الذي يعرض به القرآن موضوعات المعرفة اختلافاً بيّناً عن أساليب العلم الحديث. فالمدخل العلميّ يقوم على عزل وتحليل الخاص بينما يشير الوحيّ القرآنيّ دوماً إلى الخاص في علاقته مع – وكجزء من – نمط الخلق الكليّ.
بمقدور العلم اليوم أن يفسّر أشكالاً شتى من التفاعلات المعقدة التي تنتظم وتحافظ على دورة الحياة فوق كوكبنا الأرضيّ. فبوسعنا أن نفهم تماماً اليوم الكيفية التي يمكن للحشرات والحيوانات والرياح أن تحمل بها حبوب اللقاح من الأعضاء المذكرة في النبات إلى الأعضاء المؤنّثة في نبات آخر. وتعتمد عملية التخصيب في النبات دوماً تقريباً على وجود خصائص جنسية محددة؛ عضو الذكر وبويضة الأنثى. تلك معلومات عامة اليوم، ولكنها لم تكن كذلك وقت نزول القرآن. فتلك المعلومات التفصيلية لم تكن معروفة على نطاق واسع. ولذا يدهشنا أن نقرأ في جزء من الآية 3 من سورة الرعد:

…وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ {13/3}

وفي جزء من الآية 53 من سورة طه:

…وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى {20/53}

ويورد القرآن هنا هذا التفصيل ليوسّع بها من آفاق إدراك الناس لوحدة الكائنات جميعاً وموقع الإنسان في الخلق كله. ربما تعيّن علينا في هذا الضوء أن نتوقع اكتشاف أن أيّ ملاحظة تفصيلية ترد في القرآن لابد أن تكون حتماً في اتساق مع العلم الحديث.
لقد كان اكتشاف العلاقة بين القرآن والعلم في مجالات بحثه هو الذي أدى بالدكتور موريس بوكاي إلى القيام بدراسة أوسع للإشارات العلمية في القرآن.
الدكتور موريس بوكاي (متحدثاً أمام الكاميرا):
“باعتباري طبيباً منجذباً بشكل خاص إلى علم وظائف الأعضاء والعلوم الطبيعية، لابد لي من أن أعترف بأنني حينما قرأت القرآن الكريم بلغته العربية لأول مرة في عام 1972، كانت المعلومات والمعطيات المتعلّقة بالجسم الإنساني فيه أول ما اجتذبني. وبالنظر إلى وضع المعرفة العلمية في عهد النبيّ محمد صلّى الله عليه وسلّم، لا يعقل أن يكون ذلك الكمّ الهائل من المعلومات المتصلة بالعلم الواردة في القرآن من وضع إنسان”.
المعلّق:
يستند هذا الفيلم إلى البحوث التي قام بها الدكتور بوكاي ونشرت لاحقاً في كتابيه؛ “الإنجيل والقرآن والعلم” و”أصل الإنسان”، ولقد تحوّل اهتمام الدكتور بوكاي إلى دراسة عامة احتوت على كمية منتقاة من الإشارات العلميّة الواردة في القرآن. وأدرك بوكاي أنه لابد من القيام بتطوير فهمه لكثير من فروع المعرفة العلمية الخاصة من أجل فهم تلك الإشارات بصورتها الإجمالية. ومع تقدم دراسته اكتشف أن كل وصف للعالم الماديّ وارد في القرآن مرتبط بالحقائق العلميّة المثبتة.
الدكتور موريس بوكاي (متحدثاً أمام الكاميرا):
“ولذا فإنه من المنطقيّ تماماً النظر إلى القرآن ليس باعتباره وحياً منزّلاً فحسب بل أن يُفرد له موقعٌ عليّ خاص به على أساس الضمان الذي يوفّره لنا بثبوت أصالته بالإشارات العلمية المتضمّنة في آياته. فعندما ندرس القرآن حتى في عصرنا هذا نراه لا يزال يشكّل تحدياً حقيقياً للمعرفة الإنسانية”.
المعلّق:
كيف يتسنى إذن لكتاب يرجع تاريخه إلى القرن السابع الميلاديّ أن يسبق هذا الكمّ الهائل من معارفنا العلمية اليوم…تلك المعارف التي تم اكتسابها بعد كفاح طويل؟ لكي نجيب عن هذا السؤال يتعين علينا النظر إلى طبيعة الوحيّ القرآنيّ واختبار صحة نصوصه وأصالته.
إن مكة الواقعة في شبه الجزيرة العربية هي مركز الإسلام. ولطالما كانت مكة مكاناً مقدساً، فقد كانت مركزاً للحج قبل زمن طويل من بعثة النبيّ محمد صلّى الله عليه وسلّم. وهي مسقط رأس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمكان الذي نشأ فيه ليكون عضواً في مجتمع يمنحه أكبر قدر من الاحترام بالإضافة إلى نجاحه في التجارة. كان من عادته أن يأوي إلى الجبال القريبة لفترة يخلو فيها بنفسه طلباً للتأمّل والتفكّر. وفي غار حراء تنزّلت عليه أولى آيات الوحي وقد أتمّ الأربعين من عمره في السادس من أغسطس من عام 610 للميلاد:

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {96/1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ {96/2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ {96/3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {96/4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ {96/5} – سورة العلق، الآيات 1 – 5.

استمر التنزيل الإلهيّ لثلاثة وعشرين عاماً حتى وفاة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في عام 632 للميلاد. ولمّا كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يعرف القراءة أو الكتابة فقد استعان بأصحابه المتعلّمين ليملي عليهم ما أوحي إليه من آيات القرآن. وهكذا أشرف بنفسه على تدوين الآيات. وقد جمعت تلك الصحائف فيما بعد لتشكّل القرآن الحالي. ومجموع سور أو فصول القرآن 114 سورة تحتوي على ما يزيد عن 6000 آية. وفي غضون 15 عاماً من وفاة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قام صحابته ممن شهدوا الوحي بتجميع وتوثيق نسخة نهائية من القرآن. وقد تم هذا الإنجاز في زمن خلافة عثمان بن عفان في المدينة حيث دفن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
عندما جاهر النبيّ محمد صلّى الله عليه وسلّم برسالته في مكة لاقى معارضة شديدة وعداوة كثير من أهلها فأجبر على الهجرة مع من اتبعوه. وفي المدينة آواه أهلها ونصروه وهنا تأسّس المجتمع الإسلاميّ الأول وتطوّر الإسلام إلى مجتمع. ومنذ ذلك الحين لم يتبدل حرف واحد في القرآن فاحتفظت الكلمات بمعانيها الأصلية. واليوم يقرأ المسلمون النص القرآنيّ ذاته كلمة بكلمة في لغته العربية الأصلية عبر أرجاء العالم الإسلاميّ من المغرب إلى ماليزيا.
يعتقد المسلمون أن القرآن هو كتاب الحكمة الذي يهدي مسيرة الإنسان في كل أوجه الوجود البشريّ على الأرض. فالقرآن لا يُعنى بالتنمية الروحية الداخلية للإنسان فحسب بل بسلوكه الخارجيّ وحياته في مجتمعه. ويتبدى المنهج الحاكم للحياة الإسلامية في كل من المجتمع الحضريّ المعقد، مثل مدينة لاهور في باكستان مثلاً، وفي المجتمع الريفي التقليدي. لقد اعتبر الإسلام دوماً أن الفرد هو الركيزة الأساسية لأيّ مجتمع صغيراً كان أم كبيراً. إن سلوك الفرد هو الذي يحدد مدى قوة أو ضعف النمط الاجتماعيّ. ويحفل القرآن بآيات وافرة ترشّد السلوك الفردي وتنصّ على مسئولياته تجاه الآخرين. وفي أيّ مجتمع مسلم، ريفياً كان أم حضرياً، فإن عناصر الهداية تلك يتم تلقينها وتدريسها وشرحها للأفراد في سن مبكرة. ويصف القرآن هذه المسئولية الفردية كأمانة استودعها الله في الإنسان. وتتضمن الأمانة مسئولية ثلاثية الأشكال؛ مسئولية تجاه النفس ثم تجاه الآخرين وأخيراً تجاه العالم الطبيعي. وهكذا يرى الفرد ذاته كجزء من كل عوضاً عن أن يكون كائناً منبت الصلة عما حوله.
يتبدى لنا عند قراءة القرآن كيف أنه يسبغ معنى على أكثر مظاهر الحياة اليومية اعتيادية وآلية. فلقد تنزّل القرآن قبل 600 عام من اكتشاف العالم المسلم ابن النفيس للدورة الدموية. وكان ويليام هارفي William Harvey هو الذي قدم هذا الاكتشاف إلى العلم الغربيّ بعد 1000 عام من نزول القرآن. بل إن الآية التالية تصف عمليتيّ الهضم وتوزيع العناصر الغذائية على مختلف الأعضاء والغدد عن طريق الدم:

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ {16/66} – سورة النحل، الآية 66.

يكتسب الفرد قوة حين يقبل مسئولية الحياة. فمن إحساسه بالهوية والانتماء تنمو قوة المجتمع القرويّ ومنها تتعاظم قوة المجتمع العالمي الأكبر. ويتعدى القرآن بالطبع كونه دليلاً هادياً للسلوك الاجتماعي والأخلاقي. فقبول الوحي يعني بشكل جوهريّ الإيمان بالله الخالق الأعظم، كما يعني أيضاً الإيمان برسله. ويعتبر القرآن حرفياً كلام الله. ومن المعروف جيداً أن المسلم يقيم الصلاة خمس مرات في اليوم، ولكن من غير المفهوم غالباً أن صلاته لا تنتهي بعد أن يغادر المسجد. إذ يتعيّن عليه أن يحمل صلاته معه لتصبغ وعيه الذي يقوده في مباشرة أنشطته اليومية بصبغة الله. وبهذه الكيفية يحاول تثبيت منظور إسلاميّ لحياته الفانية، فيعيش الدنيا ولا يعلق بها.
واليوم يعيش ما يربو على بليون مسلم في العالم في دول مختلفة تفصل بينهم اللغة والثقافة والسياسة. غير أن ما يوحّدهم هو الإيمان بالله والقرآن. هذا في عصر يشعر فيه أناس كثيرون، لاسيما في الغرب، بأن التقدم العلمي قد ألقى بظلال من الشك لا تقبل الجدل حول قيمة التعاليم الروحية. وكان الإسلام وحده هو الدين الذي لم ير مطلقاً أن هناك تناقضاً حقيقياً بين العلم والدين.
كان البروفيسور الراحل إسماعيل فاروقي حجة عالية القدر في ميدان الدراسات الإسلامية:
الدكتور إسماعيل فاروقي (متحدثاً أمام الكاميرا):
“أن تكون مسلماً يعني أن تكون عالماً لأنه لن يمكنك أن تكون مسلماً ما لم تفي بشروط الخلافة وهي أمانة المسلم ومسئوليته في الأرض. وشروط الخلافة تعني أن تتعامل مع الطبيعة فتقوم بتحويل الطبيعة داخلك ثم الطبيعة داخل الكائنات الإنسانية الأخرى وأخيراً الطبيعة الخارجية كالأشجار والجبال والأنهار وكل شيء في الخلق بأكمله (لصالحك). ولذا يجب عليك دراسة الطبيعة للتعرف على قوانينها وأسرارها لكي تتمكّن من التعامل معها وتحويرها لصالح الإنسانية. ثمة سبب آخر وهو أن الطبيعة هي خلق الله التي زرع فيها آياته، ومن ثمّ فلكي نعظّمه ينبغي علينا التدبّر في آياته الكونية واكتشاف سننها ومدلولاتها حتى نعرفه سبحانه ونجلّه. هذان سببان يعلّلان لم يتعيّن على كل مسلم أن يكون عالماً. ولذا أنجز المسلمون الأعاجيب في ميادين العلوم. وهكذا فإن المسلمين يدرسون الطبيعة ليس باعتبارها عدواً، كما اتخذها الإغريق مثلاً، أو لأن فيها جنيّاً يسعون إلى إخضاعه والسيطرة عليه. لا شيء من هذا على الإطلاق، بل لأن الطبيعة هبة من الله سخّرها للإنسان كي يعيش في كنفها ويؤدي شروط الخلافة التي أوصاه الله بها.
ومن خلال ملاحظة الإنسان للطبيعة تعلّم الإنسان دوماً أن يكيّفها وفقاً لاحتياجاته. وأنظمة الزراعة والري القديمة خير مثال للكيفية التي أمكن بها للإنسان تحويل فعل الملاحظة إلى نسق معرفيّ عملي. وكان من الضروريّ تنمية فهم الإنسان العلميّ للطبيعة لتطوير مثل هذه التقنية الأساسية”.
المعلّق:
كان على أوروبا أن تنتظر حتى القرن السادس عشر للميلاد لكي يقدم برنار باليسيBernard Palissy أول وصف متماسك للدورة المائية. فكتب يصف الكيفية التي تتبخر بها مياه المحيطات ثم تبرد مكوّنة السحب. بعدها تنتقل السحب إلى اليابسة حيث ترتفع وتتكاثف ثم تسقط أمطاراً. بعد ذلك تتجمّع مياه الأمطار في بحيرات وجداول وتنساب عائدة إلى المحيطات في دورة مستمرة. هذه صورة مألوفة لنا جميعاً اليوم. غير أن الأفكار التي كانت سائدة في زمن النبيّ محمد صلّى الله عليه وسلّم أضافت إلى الأساطير والتخمينات أكثر مما لاحظت الحقائق. وفي القرن السابع قبل الميلاد اعتقد طاليس Thales of Miletus (فيلسوف يونانيّ قبل عصر سقراط اُعتبر واحداً من حكماء الإغريق السبعة) أن رذاذ الماء المنتشر فوق أسطح المحيطات يندفع بقوة الرياح محمولاً إلى اليابسة ليسقط مطراً. وكان القدماء يظنون أن الماء يعود إلى المحيطات عبر هاوية عظمى أسماها أفلاطون تارتاروس Tartarus، في حين تخيّل أرسطو أن الماء المبخّر من التربة يتم تكثيفه في كهوف جبلية مبرّدة مكوناً بحيرات تحت سطح الأرض تقوم بتغذية الينابيع.
بيد أن القرآن، وقد نأى بنفسه في موقع عال، فقد بعد عن أن يعكس المفاهيم غير الصحيحة السائدة في زمن تنزيله، فما جاء به في هذا العلم يتفق تماماً مع الحقائق الثابتة في علم المياه المعاصر Hydrology:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ… – سورة النور، الآية 43.
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ {30/48} وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ {30/49} – سورة الروم، الآيتان 48-49.

إن العلم هو دراسة العالم الماديّ والكيفية التي تعمل بها الطبيعة، في حين أن الآيات كما هي في التنزيل القرآنيّ تعرض رؤية عامة لذلك.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ… – سورة الزمر، الآية 21.

وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {30/24} – سورة الروم، الآية 24.

ويطلب القرآن من الإنسان أن يبحث عن العلم في نفسه وفي الآفاق في العالم الخارجيّ. ولكي يصل الإنسان إلى درجة الإدراك، لا مجرد النظر، عليه أن يوظّف عيناه وعقله وقلبه. إن أيّ قدر من المعرفة يتطلّب إيماناً، ولكنه ليس إيماناً أعمى كما يشيع خطأً لدى الكثيرين. إن الباحثين المخلصين عن المعرفة يترقّبون دوماً يوماً تمتحن فيه أفكارهم كما يمتحن إيمانهم.
وفي التاريخ القصير للعلم الحديث فإن كثيراً من الأفكار والمفاهيم المطروحة ما لبثت أن طرحت جانباً حالما أشار دليل إلى وجود حقيقة مختلفة. ومع ذلك فإن هناك اكتشافات علميّة يمكن بيسر القول عنها إنها حقائق لا تقبل الجدل. من بين هذه الحقائق حقيقة مقبولة اليوم ومعروفة على نطاق واسع وهي حقيقة أن الشمس مصدر مباشر للضوء وأن القمر، الذي لا يولًد ضوءً من عنده، هو مجرد جسم عاكس لضوء الشمس. إن معلومات تفصيلية كهذه لم تكن معروفة على نطاق واسع منذ 1400 عام. ولكن القمر يوصف في القرآن بأنه “منير” وهي كلمة تدل على أنه جرم “يعكس أو يستعير الضوء”. أما الشمس فيشبهّها القرآن “بسراج وهّاج” وهذا وصف دقيق وموجز للاختلاف بين ضوء الشمس ونور القمر.

تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا {25/61} – سورة الفرقان، الآية 61.

لقد اعتقد العلماء والفلاسفة الأوروبيون لوقت طويل أن الأرض ثابتة في مركز الكون وأن كل جسم كوكبيّ آخر، بما في ذلك الشمس، يدور حولها. وظلّت نظرية مركزية الأرض Geocentricism في العالم الغربيّ سائدة كمسلّمة منذ زمن بطليموس Ptolemy في القرن الثاني قبل الميلاد وحتى القرن السادس عشر للميلاد حينما أكّد كوبرنيكوس Copernicus أن الأرض هي التي تدور حول الشمس. وفي عام 1609 نشر عالم الفلك الألمانيّ يوهانس كيبلر Johannes Kepler كتابه المعنون: “علم الفلك الجديد” Astronomia Nova والذي استنتج فيه أنه ليست الكواكب وحدها هي التي تدور في أفلاك كهربائية حول الشمس ولكنها تدور أيضاً في الوقت نفسه حول محورها في سرعات غير منتظمة. ومن حصاد تلك المعرفة تمكّن العلماء الأوروبيون من الشرح الصحيح لكثير من الآليات التي تنتظم مجموعتنا الشمسية بما في ذلك عملية تعاقب الليل والنهار.
وفي شرح تعاقب الليل والنهار يستخدم القرآن الفعل العربيّ “يكوّر” لوصف الكيفية التي يلتفّ بها الليل ويدور حول النهار والنهار حول الليل. وهي حركة تتلاءم تماماً مع دورة الليل والنهار التي يحدثها دوران الأرض حول محورها.

…يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ… – سورة الزمر، الآية 5.

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ {21/33} –سورة الأنبياء، الآية 33.

يسبق الوحي القرآنيّ العلم بمراحل عدة في رؤيته الموحّدة للخلق. حتى أن الإشارات الدالّة في آياته والمتعلّقة بالتحديد بأوصاف العالم الماديّ تتطابق تماماً مع الحقائق العملية المثبتة. فالقرآن يخلو بشكل كامل من أيّ تناقض مع هذه الحقائق.
لا يوجد هناك نزاع متأصّل بين مسعى الدين إلى الحكمة وبحث العلم عن الحقيقة، ولكنها القطعية العقائدية الجامدة Dogmatism التي أوجدت هذا الوهم. إن هذه العقائدية القطعية الدينية (القائمة على فرض نتائج بلا مقدمات منطقية) هي التي أدّت إلى إنكار اكتشافات علميّة شديدة الأصالة. وهكذا تنشأ القطعية العقائدية الجامدة في مجال العلم في غالب الأحوال بسبب العجز عن التمييز بين الحقيقة والنظرية العلميتين. ولا يوجد مجال يعلو فيه صوت القطعية العقائدية الجامدة أوضح من الجدل الذي أحاط وما زال يحيط بنظرية التطوّر Theory of Evolution.
وبالنسبة لمعظمنا فإن مفهوم التطوّر ملازم لاسم تشارلز داروين Charles Darwin.
(مشهد لمعلّم يعرض على تلامذته تمثالاً نصفياً لتشارلز داروين في أحد المتاحف)
المعلم: “هذا هو تشارلز داروين الذي نود أن نذكره لأنه كان أول من فكّر في آلية مقنعة لشرح الكيفية التي كان يمكن بها حدوث التطوّر. وقد أسمى داروين هذه الآلية “الانتخاب الطبيعي” Natural Selection وقدم وصفاً لها في كتابه. هل يتذكر أحد منكم اسم الكتاب؟”.
تلميذ: نعم…”في أصل الأنواع” On the Origin of Species.
المعلم: صحيح. أبحر داروين في المحيط إلى أن وصل إلى مجموعة من الجزر يطلق عليها جالاباجوسGalapagos . هل يتذكر أيّ منكم اسم سفينته؟
تلميذ آخر: بيجل.
المعلم: صحيح. السفينة اسمها إتش إم إس بيجل HMS Beagle.
في جزر جالاباجوس عثر داروين على أدلة حية على حدوث التطوّر. وجد على سبيل المثال أن هناك اختلافات كبيرة في مناقير العصافير من طيور الحسّون Finches حيث تطوّر كل منها للتواؤم ولاستغلال الوضع البيئيّ المتغيّر. غير أن جميع تلك الاختلافات قد وقعت في النوع نفسه. ولم يعثر داروين على دليل يدعم نظريته القائلة بتطوّر نوع إلى نوع آخر. وفي رسالة بعث بها إلى توماس ثورنتون Thomas Thornton Esq. في عام 1861 عبّر داروين عن هواجسه.
كتب يقول: “إنني أؤمن بالانتخاب الطبيعيّ Natural Selection ليس بسبب مقدرتي على أن أثبت، في أيّ حالة مفردة، أنه قد نجح في تحويل نوع إلى آخر، ولكن بسبب أن الانتخاب الطبيعيّ يقوم كما يبدو لي، بالتجميع والشرح الوافي لحزمة من الحقائق المتعلّقة بعلم الأجنّة التصنيفيّ Classification Embryology وعلم تركيب الخلايا Morphology والمكوّنات العضوية الأوليّة Rudimentary Organs والتتابع الجيولوجي Geological Succession وتوزيع الأنواع Distribution”.
وعلى الرغم من تلك الهواجس فقد تركت مساهمة داروين أثراً بلغ من قوته أن صبغ بلونه أغلب الأبحاث العلميّة التي أجريت فيما بعد في هذا الموضوع، حتى أن الصورة الشائعة عن التطوّر التي ترسم إنساناً منحدراً من قرد أصبحت شعبية في كل مكان إلى حد أنها تدرّس الآن لنا كما لو كانت حقيقة لا مجرد نظرية! وعلى مدار أكثر من قرن من البحث العلميّ (منذ نشر داروين كتابه في عام 1859) لم يتمكّن عالم واحد من إثبات هذه النظرية.
لفترة طويلة كان خط الأبحاث الرئيس في مجال علم الإحاثة Palaeontology يقوم على دراسة الأحافير المتحجّرة. وهنا لم تتوفّر سوى أدلة عشوائية محدودة للغاية منحت قدراً غير محدود من التكهّن. ففي عام 1971 كتب البروفيسور جراسيهGrasse الذي رأس كرسيّ الدراسات التطوّرية في جامعة السوربون University of Sorbonne في باريس لمدة ثلاثين عاماً يقول:
“عند دراسة تاريخ الحيوانات الرئيسة Primates ينبغي أن نكون حذرين من أن نأخذ عمليات إعادة تركيب أشكال أسلافنا على علاتها تأسيساً على بضع مخلّفات لهياكل عظمية يعرضها بكل جدية علماء إحاثة Paleontologists واسعو الخيال”.
ولعل هذا يفسر السرعة التي تم بها ابتكار أشجار السلالات البشرية Human Genealogy والسرعة التي طرحت بها جانباً. وأحدث ما أنتج في هذا الموضوع دراسات تبدو رثّة إلى حد كبير، على الرغم من أنها تعرض اكتشافات جديدة ومثيرة للاهتمام. غير أن الباحثين المشاركين في هذه الدراسات لا تتوفّر لديهم المعرفة ولا الحسّ السليم لتقديم تفسير صحيح لتلك الاكتشافات.
لقد أظهر الدليل الأحفوريّ أن تطوّر الإنسان قد مرّ بعدة مراحل. بيد أنه لم يتم العثور على أيّ دليل يربط تلك الأشكال الشبيهة بالإنسان Hominid Forms مع أيّ نسب حيوانيّ Lineage Animal. وتظهر لنا تخمينات هؤلاء العلماء حول أصل الإنسان مثل حالة إنسان بيلتداونPiltdown الشهير، التفكير الأحاديّ البعد لعلماء الإحاثة هؤلاء في البحث عن تلك الحلقة الافتراضية المفقودة.
ولعل أقدم وأقرب الأحافير المتحجّرة شبهاً بالشكل الإنسانيّ هي حفرية لوسي Lucy التي تنص الدراسات على أن عمرها يصل تقريباً إلى ثلاثة ملايين ونصف مليون عام. وقد أظهر التركيب العظميّ أن لوسي كانت تمشي منتصبة على ساقين مثلنا وليس مثل القردة. وقد انقرضت لوسي وسلالتها الأسترالوبيثيسين Australopithecines في وقت ما خلال العصر الجليديّ الأول.

وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا {71/14} – سورة نوح، الآية 14.

وقد توصّلت الأحافير التي عثر عليها في أفريقيا وآسيا وأوروبا إلى أنه كانت هناك موجة أخرى من شبيهي البشر أقرب إلى حجمنا وحجم لوسي مع سعة للمخ تشبه ما لدينا، وهي الموجة التي سميت بالإنسان المنتصب Homo Erectus ويبدو أنها اختفت في حقبة تقع بين خمسمائة ألف ومائة وخمسين ألف عام.
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ {95/4} – سورة التين، الآية 4.
أما الموجة التالية وهي إنسان نياندرتال Neanderthal فكانت أقرب إلينا في التركيب وربما أيضا في الشكل الخارجيّ. وقد قضت هذه السلالة فيما بين مائة ألف وأربعين ألف عام مضت.
…إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ {6/133} – سورة الأنعام، الآية 133.
خلفت الموجة الرابعة إنسان نياندرتال. فإنسان كرو – مانيون Cro-Magnon هو السلف المباشر للإنسان الحديث. ولم يتم العثور على أيّ رابط واضح بين أيٍّ من تلك المراحل المختلفة.
نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا {76/28} – سورة الإنسان، الآية 28.
مرة أخرى يبدو أن العرض القرآنيّ والحقائق المكتشفة المبنية على أبحاث علمية يتطابقان من جديد. غير أن التشابه يتوقّف هنا حيث لا يتفق القرآن مع نظريات وتخمينات علماء الإحاثة.
لعل أحدث تأييد لنظرية تطوّر الأنواع يأتي من علم الأحياء الجزيئية Molecular Biology وبشكل خاص الدراسات المتعلّقة بالصبغياتChromosomes والشفرة الجينية Genetic Code. ففي الكائنات الحية متعددة الخلايا Multi Cellular Organisms نجد أن الشفرة الجينية الكاملة محتواة في نواة كل خلية من خلايا الجسم. هنا يرث الفرد نسخ الجينات نفسها من الوالدين، وهكذا يتم توارث المعلومات الجينية من جيل إلى آخر. وتظلّ الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تتغيّر بها الجينات محصورة في التحوّل Mutation كطفرة وراثية خلال عملية النسخ Duplication Process. وقد أوضح علماء الجينات Geneticists كيف أن عملية الطفرة هذه يمكن أن تفسّر حدوث تغييرات جسمانية رئيسة خلال فترة زمنية قصيرة، ولكن هذا التحوّل بعيد تماماً عن إثبات إمكانية تطوّر نوع إلى نوع آخر. بل هي أبعد من تقديم تفسير لوجود ما لا يعد ولا يحصى من أشكال للحياة على هذا الكوكب. ولكي تستطيع الكائنات الحية متعددة الخلايا تغيير طبيعتها ووظائفها لابد أن تتطوّر ملامح أخرى كثيرة معاً في آن واحد. وتحتاج هذه العملية إلى تنسيق جيني خيالي وأن ينسب علماء أحياء دقيقة Microbiologists هذا التنسيق الافتراضيّ إلى طفرة عشوائية اتفاقية مدفوعة بالمصادفة فهذا دفع مؤلم لحدود الخيال! ويحدد فرانسيس كريك Francis Crick (1916 – 2004)، الذي سيطر على مجال الأبحاث الجينية منذ البدايات الأولى لتلك الأبحاث، بصرامة وقسوة حدود المدخل الجزيئيّ لتفسير الطفرة. وبطريقة أو بأخرى يمكنك القول إن كل البحوث في مجال الأحياء الجزيئية الجينية التي أجريت خلال الستين عاماً الماضية كانت بمثابة فترة فاصلة طويلة الأمد، والآن قد اكتمل البرنامج وأتممنا دورة كاملة حيث عدنا من جديد إلى المعضلات التي خلفناها وراءنا دون حل. كيف يمكن لعضو أصيب بجرح أن يعيد توليد ذاته من جديد لكي يعود إلى تركيبته نفسها التي كان عليها من قبل؟ كيف تشكّل البويضة الكائن الحي؟ لا شيء تقريباً معلوماً عن الكيفية التي تتواصل بها الجينات…عن الأسلوب الذي تتعاون به بين بعضها البعض…عن المنهج الذي تنظّم به نفسها لكي تطوّر كائناً حياً بالغ التعقيد كالإنسان. إن محاولة لتفسير الحياة على أساس عشوائية الآليات المنظّمة للجزيئيات Molecular Mechanisms فحسب، هي محاولة بالغة التبسيط. فهي تخفق في مواجهة التساؤلات الجوهرية التي تغلّف عملية الخلق.

وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ… – سورة الأعراف، الآية 11

.
إن الغاية من المفهوم الروحانيّ وراء خلق الإنسان من طين أو تراب معروفة للكافة. وقد أوضح العلم دوماً أن هناك حقيقة فيزيقية وراء تلك الغاية، حيث إن العناصر الكيمائية التي تكوّن الجسم البشري موجودة في الأرض بدرجة تقل أو تكثر.
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ {82/7} فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ {82/8} – سورة الانفطار 82 الآيتان 7- 8.
إن خلق الإنسان كنوع يمكن رؤيته في العالم الصغير Microcosm الذي يترافق وجوده مع خلق كل فرد من بني البشر. وتذهلنا الآيات القرآنية المحمّلة بإشارات عن التخصيب وتطوّر الجنين البشريّ بوضوحها ودقتها.
(مشهد داخل الرحم)
ما تشاهدونه الآن هي الرحلة الواقعية التي يقوم بها الحيوان المنويّ إلى البويضة وهي مادة فيلمية تصوّر لأول مرة داخل الجسم البشري.

وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى {53/45} مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى {53/46} – سورة النجم، الآيتان 45 – 46.

ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ {23/13} – سورة المؤمنون، الآية 13.

بعد تخصيبها تنتقل البويضة إلى الرحم حيث تعلق بجداره من أجل الحصول على الغذاء اللازم لتنميتها.

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {96/1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ {96/2} – سورة العلق، الآية 1- 2.

ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا… – سورة المؤمنون 23 الآية 14.

وكلما ازداد نمو الجنين انتقل عبر عدة مراحل تكون فيها معظم أعضائه مخلّقة وغير مخلّقة.

…فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ… – سورة الحج، الآية 5.

…وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ… – سورة السجدة، الآية 9.

واليوم…..نحن نعيش عصراً تميّز بإنجازات علميّة عظيمة، وعلمنا فيه الكثير عن آليات للطبيعة لا نهائية التعقيد. وعندما نفكر في التنظيم الرائع الذي ينظّم ميلاد الإنسان ويحافظ على حياته، تتضاءل وتتلاشى إمكانية التفكير في الحياة باعتبارها وليدة المصادفة. وفي الوقت الذي يغوص فيه العلماء إلى أعماق سحيقة في العوالم الخلوية ودون الذرّية ثم يحلقّون صوب اللانهائيّ في أجواز الفضاء لكشف أسراره، فإنهم يشارفون على الاقتراب من تخوم جديدة ومحيّرة للمعرفة. وهنا تؤذن النظرة الآلية الكلاسيكية للحياة بالتوقّف حين يجد العلماء أنفسهم وقد ووجهوا بتساؤلات كان ينظر إليها دوماً باعتبارها لا يصحّ البوح بها إلّا في غرفات الروح والمعتقدات الدينية.
من المؤكّد أن العلم وحده، وهو شكل نسبيّ للمعرفة، لن يتمكن أبداً من الإجابة عن هذه التساؤلات.

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ {55/33} – سورة الرحمن، الآية 33.

إن إدراك الحياة بصدق يمكن فقط فهمه حقاً في ضوء تبادل العلاقات والاعتماد المتبادل التي تمثّل نقطة انطلاق المعرفة الدينية والروحية جميعاً. والوحيّ القرآنيّ هو الخاتم في الرحلة الطويلة للحكمة المنزّلة. فهو يمثّل عرضاً عاماً متضمّناً كل السبل السالكة صوب المعرفة، بما فيها المعرفة العلمية، والتي يمكن أن تهدي إلى فهم أكمل وأشمل للرسالة الإنسانية على الأرض. إن العالم اليوم يشهد معاناته من الافتقار إلى هذه الرؤية الموحّدة.