المحاضرة التالية هي الأولى من محاضرتين ألقاهما الدكتور موريس بوكاي ضمن برنامج زيارته إلى شيكاغو في عام 1987. وقد تمت دعوة الدكتور بوكاي بعد أن نالت إسهاماته العلمية المتعلّقة بالإشارات العلمية في القرآن الكريم مكانة مرجعية موثقة.
وفي المحاضرة، التي تنشر لأول مرة باللغة العربية، يلخّص بوكاي ما سبق أن أجمله في كتابه “الإنجيل والقرآن والعلم” (1976) مضيفاً إليه ما تبعه من جهود علمية.
ترجمة وإعداد: الفاروق عبد العزيز

مقدمة المضيف
إنه لمن دواعي سروري وفخري أن أقدم لكم العالم الفرنسي البارز الدكتور موريس بوكاي، الذي اهتم كثيراً بدراسة القرآن في فترة معينة من حياته. ففي البداية قرأ القرآن في ترجمته الفرنسية، وبعد ذلك قرأه في ترجمة إنجليزية ولاحظ وجود بعض التناقضات بين الترجمتين حيناً والاختلافات حيناً آخر. ونتيجة لذلك قرّر تعلّم اللغة العربية وكان عمره آنذاك خمسين عاماً. ولكونه عالماً فقد اضطلع بمهمة البحث في علاقة الروايات الإنجيلية والقرآن الكريم بالعلم الحديث. وفي ختام بحثه نشر كتابه المرجعيّ الممتاز الأول؛ “الإنجيل والقرآن والعلم” The Bible, the Qur’an and Science بالفرنسية في عام 1976 وما لبث أن ترجم إلى الإنجليزية خلال شهور. وخلال الأعوام التالية انشغل بدراسة الجدل الدائر بين التطوّريين والمؤمنين بالخلق فنشر كتابه الثاني في عام 1981؛ “أصل الإنسان” The Origin of Man وأحدث مساهماته العلمية كتابه الأخير؛ “مومياوات الفراعنة: بحوث طبية حديثة” Mummies of the Pharaohs: Modern Medical Investigations تحت الطبع في الوقت الحالي. وفيه يشرح الكيفية التي استطاع بها تحديد هوية الفرعون في عصر ميلاد النبي موسى عليه السلام ثم الفرعون الذي حدث الخروج Exodus في عصره.

محاضرة الدكتور موريس بوكاي

القرآن والعلم الحديث

السيدات والسادة…السلام عليكم ورحمة الله وبركاته…
لا وجود لأيّ كتاب أبدعه جهد إنسانيّ قبل عصرنا الحديث قد احتوى على معطيات تساوت مع الوضع المعرفيّ آن ظهورها مما يمكن مقارنته بالقرآن. وربما لا يمكنني أن أعثر على مثال أفضل للدلالة على الرباط الوثيق بين العلم والإسلام مما ورد في حديث لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول فيه:

“اطلبوا العلم ولو في الصين”

والذي ينطوي على دعوة صريحة للإنسان بإطلاق سعيه نحو المعرفة. وفي قول آخر ربما كان أبلغ دلالة يقول صلّى الله عليه وسلّم في حديثه المشهور:

“مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء” .

ولذا لم يكن من المفاجئ النظر إلى العلم والدين دوماً كتوأمين في الإسلام. وفي عصرنا، حيث حقّق العلم إنجازات باهرة، لا تزال التوأمة بين الإسلام والعلم قائمة، وما هو أكثر من ذلك فإن المعطيات العلمية صارت تتيح مجالاً لفهم أفضل للنص القرآنيّ. بل إن ما يلفت الانتباه أكثر من ذلك أن نرى أنه في قرن يرى فيه الكثيرون أن العلم قد وجّه ضربات موجعة للمعتقدات الدينية، فقد كانت الاكتشافات العملية بالتحديد هي التي ألقت الضوء على الطبيعة غير العادية للآيات القرآنية. ومن منظور عام فإنه يبدو أن العلم اليوم، وعلى الرغم مما قد يذهب إليه البعض، يدعم بقوة البيّنات الدالّة على وجود الله. فما إن نبدأ في طرح التساؤلات على أنفسنا بشكل غير متحيّز طليق من الأحكام المسبقة عن الدروس الميتافيزيقية – ما وراء الطبيعية، التي يمكن استخلاصها من جملة معارفنا العلمية اليوم، كمعرفتنا باللانهائيّ، فإننا نكتشف حقا عوامل متعددة تدفعنا للتفكير في هذا الاتجاه.
فحينما نتفكّر في ذلك التنظيم المذهل الذي يحكم ميلاد ورعاية استمرارية الحياة في عالمنا، نجد، على نحو قطعيّ، أن التفكير في احتمالية أن يكون مولد الحياة وليد المصادفة في تضاؤل مستمر كلما اتسعت آفاق معرفتنا. إن التقدم العلميّ بالنسبة لي، في محاولة فهمه للتعقيد الخلاب الذي ينتظم حياة الكائن الإنسانيّ، يقدم لنا أدلّة قوية في صالح النظرية المضادة لنظرية المصادفة. وبعبارة أخرى هذه أدلة على وجود تنظيم منهجيّ خارق يهيمن على كل الظواهر الرائعة في الحياة على الأرض والكون من حولنا. وفي كثير من المواضع يقودنا القرآن ببساطة إلى هذا النوع من التدبّر. بل إنه يحتوى على معطيات أكثر دقة وتحديداً تتصّل مباشرة بحقائق علمية اكتشفها العلم الحديث. وهذا هو بالضبط ما يسترعي انتباه علماء اليوم. فتلك حقائق ظلّت مستغلقة على الفهم الإنسانيّ لقرون لأن الإنسان لم يكن يملك الأدوات الكافية للفحص العلميّ. اليوم فقط أصبح باستطاعتنا تقديم فهم أشمل لآيات قرآنية فيها إشارات إلى ظواهر طبيعية. إذ إنه بمراجعة ما كتبه مفسّرون للنص القرآنيّ يظهر عجزهم عن إدراك المعنى الكليّ لهذه الآيات على الرغم من تبحّر هؤلاء المفسّرين في علوم عصورهم. بل إنني أذهب إلى أبعد من هذا بالقول بأنه حتى في هذا القرن العشرين، بكل ما فيه من تصنيف وتبويب للمعرفة الآخذة في الاتساع، ليس من اليسير على العالم “العام” أن يفهم مدلول الإشارات العلمية في الآيات القرآنية فهماً صحيحاً وشاملاً دون اللجوء إلى البحث التخصّصيّ. وهذا يعني أنه إذا أراد المرء فهم الآيات القرآنية المحمّلة بإشارات علمية عليه أن يكون مزوداً بشكل مطلق بمعرفة موسوعية تعينه على الاقتراب من علوم عدة.
إن القرآن كتاب دينيّ لا يستهدف أغراضاً علمية. فكلما دعا الله الإنسان إلى التفكّر والتدبّر في أعمال الخلق المنطوية على ظواهر طبيعية بدا واضحاً في السياق القرآنيّ أن العرض المبتغى هو عرض طلاقة القدرة الإلهية. في سياق هذه التأمّلات نجد آيات تقدم لنا إشارات إلى معطيات متصلة بحقائق علمية راسخة، وهي حقائق متعلّقة باكتشافات علمية لم تتم البرهنة عليها إلّا في عصرنا الحديث. غير أنه من الضروريّ أن يتصف المرء بالحذر عند دراسة معاني الكلمات في السياق القرآنيّ حين يحاول فهمها في علاقتها بمعلومات علمية. وهناك مثال أسوقه من الترجمة الشائعة لجزء من الآية 54 من سورة الأعراف:

إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ…

ومع ذلك فإننا نعرف أن كلمة “الأيام” باللغة العربية، التي تترجم إلى Days بالإنجليزية، تظهر في القرآن للإشارة إلى فترة زمنية بالغة الطول وليس اليوم كما نعرفه في عالمنا المقدّر بأربع وعشرين ساعة. وهناك أمثلة أخرى أوردتها في كتابي “الإنجيل والقرآن والعلم”. وما يبدو لي ذا أهمية جوهرية هو أن القرآن، على عكس الرواية الإنجيلية، لا يضع ترتيباً في خلق السماوات والأرض.
فالفكرة الرئيسة التي يمكن استخلاصها من الآيات المتعلّقة بالخلق الكونيّ في القرآن هو تلازم عملية الخلق السماويّ والأرضيّ مع التفاصيل الجوهرية المتصلة بتكوين الكتلة الغازية الأولية الفريدة التي كانت العناصر المكوّنة لها في تماسك قبل أن تنفصل فيما بعد. وهذا هو ما نجده في جزء من الآية 11 من سورة فصّلت:

ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ…

ثم في الآية 30 من سورة الأنبياء:

أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ {21/30}

لقد أدّت عملية الفصل هذه إلى تكوين عوالم متعددة. وهو أمر تكثر الإشارة إليه في القرآن، إذ نقرأ إشارة واضحة إليها في الآية 2 من سورة الفاتحة:

الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {1/2}

في هذا يتفق القرآن بشكل كامل مع المعلومات العلمية الحديثة حول وجود سديم غازيّ Nebula وحدوث عملية فصل ثانويّ للعناصر المكوّنة للمادة الفريدة الأولى. وقد أدى هذا الفصل إلى تكوين المجرات التي انقسمت إلى نجوم منها ولدت الكواكب. ويتفق هذا كله بشكل مثاليّ مع ما توصّلت إليه علوم حديثة معنية بتاريخ الكون. وبالإضافة إلى هذا ثمة إشارة في القرآن إلى خلق وسيط بين السماوات والأرض. هذا ما نقرأه في جزء من الآية 38 من سورة ق:

وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا…

وتتلاقى الإشارة إلى خلق وسيط مع اكتشافات حديثة لجسور من المادة توصف بأنها “محابس” موجودة خارج الأنظمة الفلكية المرتّبة. والآن…هل يمكننا أن نتخيّل أن إنساناً عاش منذ ما يربو على 1000 عام كان عليماً بكل هذه المكتشفات التي ظهر أنها في اتفاق تام مع المفاهيم العامة عن الكون، والتي لم تتشكّل في علمنا إلّا بعد مضيّ قرون على وفاته؟!
ونعثر في القرآن على إشارات إلى طبيعة وحركة التكوينات في العالم السماويّ ومنها على سبيل المثال الشمس والقمر اللذان وُصفا في الإنجيل بأنهما “مضيئان”. يميّز القرآن بينهما بذكر كلمات مختلفة للدلالة على طبيعة كل منهما. فالقمر “نور” والشمس “سراج”. ونحن نعلم اليوم أن القمر جسم جامد لا يضيء بذاته إنما يعكس ضوء الشمس فنراه نوراً. أما الشمس فهي نجم سماويّ في حالة احتراق دائم فهي مصدر للحرارة والضوء. وكلمة نجم في القرآن ترد مصحوبة بصفة أخرى تشير إليه كجسم محترق يستهلك ذاته كما يظهر لنا في عتمة الليل. والكلمة التي يذكرها القرآن لهذه الظاهرة ترد في وصف النجم “بالثاقب”. أما كلمة كواكب فتعني بالتأكيد Planets وهي تكوينات سماوية تعكس الضوء ولكنها لا تولده. نحن نعلم اليوم أن التوازن في المنظومة السماويّة يرجع إلى وضع النجوم في أفلاك محدّدة تحكمها قوى الجاذبية المتصّلة بكتلة النجوم وسرعة حركتها. لكل جرم معدل حركته الخاص به. فحركة النجوم والكواكب في أفلاكها هي أساس هذا التوازن. نقرأ في الآية 33 من سورة الأنبياء:

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ {21/33}

ويصف القرآن حركة النجوم والكواكب في أفلاكها بكلمة “يسبحون”. والمعنى الأصليّ لفعل “يسبح” مستمد من حركة أي جسم متحرّك كحركة السيقان في حالة العدو أو حالة السباحة في الماء.
أما تعاقب الليل والنهار فيعبّر عنه القرآن بمعنى بالغ الدلالة في عصرنا؛ فيورد القرآن فعل “يكوّر” في الآية 5 من سورة الزمر:

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ {39/5}

والمعنى الأصليّ لفعل “يكوّر” هو وصف للف العمامة حول الرأس. وهذه مقارنة مشروعة تماماً. غير أنه في زمن تنزيل القرآن كانت المعطيات الفلكية اللازمة لعقد مثل هذه المقارنة مجهولة تماماً.
ويأتي القرآن أيضاً على ذكر تطوّرات في العالم السماويّ في مقدمتها جريان الشمس نحو موقع مستقرّ لها. وهذا أيضاً يتفق بشكل كامل مع المعطيات المبرهن عليها علمياً في عصرنا. وأكثر من هذا يبدو أن القرآن يشير إلى توسّع الكون.
أما غزو الفضاء فيجد له أيضاً ذكراً في القرآن. لقد أمكن البرهنة على ما ذكره القرآن بفضل التقدم التقنيّ الباهر الذي أحرزه الإنسان ومكّنه من بلوغ القمر. هذا هو ما يقفز إلى الذهن ونحن نقرأ الآية 33 من سورة الرحمن:

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ {55/33}

وورود كلمة “سلطان” في الآية بمثابة دعوة للبشر لتلمّس نعمة الله عليهم وتقديرها.
ولنعد الآن إلى الأرض. فمن بين آيات قرآنية كثيرة دعونا نستشهد بآيات عن الجبال. لقد أخبرتنا الجغرافيا الحديثة عن ظواهر التطبيق الجيولوجي Geological Foldingالمسئولة عن تكوين السلاسل الجبلية. ويرتبط ثبات الجبال بهذه الظواهر مادامت الطبقات أو الطيّات توفّر أساس التباين بين ارتفاعات أسطح القشرة الأرضية المكوّنة للجبال والتلال Relief. نقرأ في الآيتين 6 – 7 من سورة النبأ:

أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا {78/6} وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا {78/7}

ويمكن تشبيه “الأوتاد” المغروسة في الأرض بتلك التي تشد أركان الخيمة، وهي تمثّل أساسات عميقة للطيّات الجيولوجية. وبوسعنا أن نلاحظ التناغم القرآنيّ نفسه مع العلم الحديث في إشارات القرآن الكثيرة لدورة الماء في الطبيعة. فهذا موضوع معروف تماماً اليوم ويبدو أن الآيات التي تشير إليه تشرح نفسها بوضوح تام. غير أننا إذا أخذنا بعين الاعتبار الأفكار السائدة عن هذا الموضوع في زمن الوحي منذ أربعة عشر قرناً، فسنجد أن الأفكار الشائعة عن دورة الماء تبدو أقرب إلى الفلسفة أو الخرافة منها إلى الحقائق العلمية. إن الذين يدرسون اليوم ويحلّلون تلك الأفكار وأخرى غيرها يعترفون بأنه لم يحدث مطلقا أن أياً من تلك الأفكار القديمة المغلوطة قد وجدت طريقها إلى القرآن. لنقرأ جزءا من الآية 21 من سورة الزمر:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ…
ربما يتعيّن علينا القيام بمقارنة تشمل جانباً واحداً من دورة الماء، التي تشير إليها الآية، وتفاصيل أخرى عن هذا الموضوع مذكورة في القرآن، مع الأفكار الأخرى التي ظلّت سائدة لعصور وأحقاب عن دورة الماء. ويرجع تاريخ أول وصف متماسك لدورة الماء إلى القرن السادس عشر عند برنار باليسي Bernard Palissy. فقبل باليسي كان الناس يلوكون نظرية مفادها أن مياه المحيطات قد اندفعت، تحت تأثير رياح هائلة، إلى داخل القارّات. ثم ما لبثت أن عادت مرة أخرى عبر “الهاوية العظمى” التي كان يطلق عليها من زمن أفلاطون تارتاوس Tartarus. في القرن السابع عشر كان هناك مفكّرون كبار كديكارت Descartes ما زالوا يؤمنون بهذه الخرافة. حتى في القرن التاسع عشر ظلّ الحديث مسموعاً عن نظرية مؤداها أن الماء قد تركّز وتكثّف في كهوف جبلية باردة كوّنت بحيرات تحت الأرض كانت مصدر غذاء للينابيع.
إننا نعلم اليوم أن عملية الترشيح لمياه الأمطار داخل الأرض هي المسئولة عن تغذية الينابيع. ولو قام المرء بمقارنة الحقائق الحديثة المبرهن عليها في علم مياه الأرض Hydrology مع المعطيات التي نجدها في آيات عديدة في القرآن تشير إلى هذا الموضوع، فلن يغفل المرء عن ملاحظة درجة التطابق المذهلة بين الحقائق العلمية والمعطيات القرآنية في هذا الصدد.
لقد تأثرت أكثر من أيّ شيء آخر بالمعطيات القرآنيّة المتصلة بالكائنات البشرية ومملكتيّ الحيوان والنبات ولاسيما تلك المتعلّقة بأصل الإنسان والتناسل الإنسانيّ. إنها نعمة من نعم عصرنا أن التقدم العلميّ قد يسّر لنا اليوم فهم محتوى آيات قرآنيّة كثيرة. وهي آيات شرحها مفسّرو القرآن القدامى في إطار معانيها الظاهرة، وقد كان هذا أمراً بالغ الأهمية بالطبع من حيث تبيان وتأكيد طلاقة القدرة الإلهية. غير أنهم لم يستطيعوا الغوص في معانيها الحقيقية في ضوء حاجتهم إلى معرفة علمية تعينهم بالضرورة على فهم الإشارات العلمية في تلك الآيات. حتى في يومنا هذا فإن كثيراً من الترجمات والتفاسير، التي أنجزها رجال لا يملكون سوى خلفية أدبية، تحفل بأخطاء حول المعاني الحقيقية لتلك الآيات. إن العالم الطبيعيّ هو المؤهّل الوحيد لسبر أغوار تلك الآيات وشرحها من منظور علميّ. إن التعبيرات المتصلة بعلم الحياة Biology في القرآن ذات دلالات بالغة الأهمية. هذا ما نلمسه في الآية 30 من سورة الأنبياء:

أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ {21/30}

هذا تأكيد واضح على الفكرة المعاصرة القائلة بأن أصل الحياة مائيّ.
لم يكن البحث في علم النبات Botany في زمن النبيّ محمد صلّى الله عليه وسلّم متقدماً في أيّ بقعة على الأرض ليمكّن العلماء من معرفة أن في عالم النبات أعضاء مذكّرة وأخرى مؤنّثة. ومع ذلك فلنقرأ ما يلي في الآية 53 من سورة طه:

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى {20/53}

ونحن نعلم اليوم أن الفاكهة – الثمرات تنحدر من نباتات تتميّز بخصائص جنسية حتى عندما تأتي من زهور غير ملقّحة كالموز مثلاً. في جزء من الآية 3 من سورة الرعد نقرأ ما يلي:
…وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ…
في ميدان علم وظائف الأعضاء Physiology هناك آية واحدة تبدو لي ذات دلالة عظمى. ولكي نفهم هذه الآية يتعيّن علينا معرفة أن التفاعلات الكيميائية تحدث داخل الأمعاء مطلقة مواد مغذية مستخلصة من الأطعمة في مجرى الدم. ثم يقوم مجرى الدم بنقل العناصر المغذية إلى كل أعضاء الجسم، ومن بينها الغدد الثديية Mammary Glands المدرّة للبن. هذا هو بالتحديد ما يرد في الآية 66 من سورة النحل:

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ {16/66}

تقوم الغدد الثديية بفرز مكوّنات اللبن التي يغذّيها نتاج عملية هضم الطعام المنقول إليها بواسطة مجرى الدم. إن الحدث الأوليّ الذي يطلق العملية بأسرها في مسارها هو الترابط بين الأمعاء والدم على مستوى الجدار المعويّ نفسه.
يثري القرآن الإنسان إلى حد كبير بمعلومات عن نفسه كما سنرى. غير أنه لم يتح فهم الآيات القرآنيّة الحاملة لإشارات علمية متصلة بالجسم الإنسانيّ بشكل واضح إلّا في عصرنا الحديث. وباعتباري طبيباً فقد شعرت بانجذاب طبيعيّ نحو تلك الآيات التي تشير إلى علوم طبيعية وفسيولوجية. ويتعيّن عليّ أن أقرّ هنا بأنني بعد ما درست اللغة العربية وقرأت تلك الآيات لأول مرة في لغتها الأصلية كانت المعطيات المتعلّقة بالجسم الإنسانيّ أعظم ما تخلّف في نفسي من أثر. ولعل هذا يعلّل لم سارعت حالما فرغت من دراسة القرآن إلى إلقاء محاضرة في أكاديمية الطب الوطنية الفرنسية تركّز على المعطيات الفسيولوجية والجنينية في آيات من القرآن. ومن أجل القيام بمقارنة صحيحة يجب أن نتذكّر أن جملة من الخرافات والأساطير كانت تحكم التفكير في موضوع التناسل الإنسانيّ لعصور وأحقاب. ولدهشتنا فإن القرآن خال تماماً من أية إشارة إلى تلك الخرافات والأساطير. دعونا الآن نستخلص من تلك الآيات معلومات محددة تتعلّق بتعقيد تركيب السائل المنويّ المخصّب عند الذكر – المنيّ، وحقيقة أنها كمية صغيرة للغاية منه تكفي لضمان حدوث تخصيب لبويضة الأنثى. ويمكنني أن أصف هذا السائل بكلمة “خلاصة” Quintessence. هذا إن كانت ترجمتي صحيحة للكلمة العربية “سلالة”. ويصف القرآن في عدة آيات، وعلى نحو مطابق تماماً لما توصّل إليه علم الأجنّة، وضع البويضة داخل عضو الأنثى الجينيّ – الرحم بكلمة “علق” وهو وضع تعلّق البويضة بجدار الرحم كما تشير الآية 2 من سورة العلق:

خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ {96/2}

لا اعتقد أن هناك ترجمة مقبولة لكلمة “علق” أفضل من استخدامها في معانيها الأولية. فمن الخطأ ما يترجم به البعض هنا الكلمة إلى “كتلة دموية متجلّطة” Blood Clot. فهذا معنى اشتقاقي لا محل له في هذا السياق. وفي حين أن القرآن يصف بشكل موجز تطوّر الجنين داخل الرحم فإنه وصف بالغ الدقة، لأن الكلمات البسيطة الدالّة عليه تتفق تماماً مع المراحل الأساسية في نمو الجنين. هذا ما نقرأه في جزء من الآية 14 من سورة المؤمنون:
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا…
تتفق كلمة “المضغة” – اللحم الممضوغ Chewed Flesh على نحو دقيق مع شكل الجنين في هذه المرحلة من مراحل تطوّره. ومن المعروف أن العظام تنمو وتتطوّر داخل الكتلة اللحمية قبل أن تكسوها العضلات. هذا هو معنى كلمة “لحم” Intact Flesh. ونحن نعرف اليوم أن الجنين يمر بمرحلة يتم فيها تخليق بعض الأعضاء بشكل متناسب وأخرى بشكل غير متناسب وهو ما يحدّد هوية الفرد فيما بعد. ويتجلّى هذا المعنى بوضوح في جزء من الآية 5 من سورة الحج:

…مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ…

ثم في جزء من الآية 9 من سورة السجدة هناك إشارة إلى الحواس والأعضاء الداخلية في الجسم البشريّ:

…وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ {32/9}

تتفق هذه الإشارات في تناغم تام مع ما تم اكتشافه بعد مضي قرون على وفاة النبيّ محمد صلّى الله عليه وسلّم، ولا يمكن تخيّل أو تصديق أن معطيات كثيرة متصلة بالعلم واردة في القرآن تحتمل أن تكون من إبداع إنسان. ولذا فإنه من المنطقيّ تماماً النظر إلى القرآن ليس باعتباره وحياً منزّلاً فحسب بل أن يمنح موقعاً عليّاً خاصّاً به على أساس الضمان الذي يوفّره لنا بثبوت صحته وأصالته بالإشارات العلمية المتضمّنة في آياته. فعندما ندرس القرآن حتى في عصرنا هذا نراه لا يزال يشكّل تحدياً حقيقياً للمعرفة الإنسانية.